من أحكام شريعته عالماً بما يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به بمعذور لأنه قد أتى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك. ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتوى في شرائع دين الله؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك، وتصييرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام الدليل عليه، وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان هو المصيب فيما خالفه فيه. فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى، لحفظه الفروع لزمه أن يجيزها للعامة وكفى بهذا جهلاً ورداً للقرآن. قال الله عز وجل:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء، الآية: ٣٦] ، وقال:{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف، الآية: ٨٢] وقد أجمع العلماء أن ما لم يتبين ويستيقن فليس بعلم، وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئاً. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار. انتهى كلام الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
وقال القاضي عبد الوهاب، أحد أئمة المالكية في أول كتابه "المقدمات" في أصول الفقه: الحمد لله الذي شرع وكلف، وبين ووقف، وفرض وألزم، وأوجب وحتم، وحلل وحرم، وندب وأرشد، ووعد وأوعد، ونهى وأمر، وأباح وحظر، وأعذر وأنذر، ونصب الأدلة والأعلام على ما شرع لنا من الأحكام، وفصل الحلال من الحرام، والقرب من الآثام، وحض على النظر فيها والتفكر والاعتبار والتدبر، فقال جل ثناؤه:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر، الآية: ٢] وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}[النساء، الآية: ٨٢] ، وقال:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}[العنكبوت، الآية: ٤٣] ، وقال:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص، الآية: ٢٩] ، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ