للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والضبط والتدبير. فكان هذا مقصدهم الأكبر، وغرضهم الأول، ولم يتسع الزمان لهم والعمر لأكثر من هذا الغرض الأعم، والمهم الأعظم. ولا رأوا في أيامهم أن يشتغلوا بغيره من لوازم هذا الفن التي هي كالتوابع، بل ولا يجوز لهم ذلك. فإن الواجب أولاً إثبات الذات، ثم ترتيب الصفات والأصل إنما هو عين الحديث ثم ترتيبه، وتحسين وضعه. ففعلوا ما هو الغرض المتعين، واخترمتهم المنايا قبل الفراغ، والتخلي لما فعله التابعون لهم والمقتدون بهم. فتعبوا لراحة من بعدهم ثم جاء الخلف الصالح فأحبوا أن يظهروا تلك الفضيلة، ويشيعوا تلك العلوم التي أفنوا أعمارهم في جمعها، بإبداع ترتيب، او بزيادة تهذيب، أو اختصار أو تقريب، أو استنباط حكم، أو شرح غريب. فمن هؤلاء المتأخرين من جمع بين كتب الأولين بنوع من التصرف والاختصار، كمن جمع بين كتابي البخاري ومسلم، مثل أبي بكر أحمد بن محمد الرماني، وأبي مسعود إبراهيم بن عبيد الدمشقي، وأبي عبد الله محمد الحميدي، فإنهم رتبوا على المسانيد دون الأبواب كما سبق. وتلاهم أبو الحسن رزين بن معاوية العبدري فجمع بين كتب البخاري ومسلم والموطأ لمالك، وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي، ورتب على الأبواب إلا أن هؤلاء أودعوا متون الحديث عارية من الشرح وكان كتاب رزين أكبرها وأعمها، حيث حوى هذه الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث وأشهرها، وبأحاديثها أخذ العلماء واستدل الفقهاء وأثبتوا الأحكام ومصنفوها أشهر علماء الحديث، وأكثرهم حفظاً، وإليهم المنتهى. وتلاه الإمام أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري. فجمع بين كتاب رزين وبين الأصول الستة بتهذيبه وترتيب أبوابه، وتسهيل مطلبه، وشرح غريبه في "جامع الأصول" فكان أجمع ما جمع فيه. ثم جاء الحافظ جلال الدين السيوطي، فجمع بين الكتب الستة والمسانيد العشرة وغيرها في "جمع الجوامع" فكان أعظم بكثير من جامع الأصول، من جهة المتون إلا أنه لم يبال بما صنع فيه من جمع الأحاديث الضعيفة، بل الموضوعة.

وكان أول ما بدأ به هؤلاء المتأخرون أنهم خذفوا الأسانيد اكتفاء بذكر من

<<  <   >  >>