للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

للمكلفين، "فصار هذا القصد شاملا لجميع ما تقدم. لأنه توخى قصد الشارع من غير نظر في غيره. وقد علم قصده في تلك الأمور، فحصل له كل ما في ذلك التسبب ما علم ومما لم يعلم، فهو طالب للمسبب من طريق السبب، وعالم بأن الله هو المسبب، وهو المبتلي، ومتحقق في صدق التوجه به إليه. فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب. لكن ذلك كله منزه عن الأغيار، مصفى من الأكدار١.

وحيث إن الشاطبي جعل هذه المرتبة جامعة لمحاسن المراتب الخمس السابقة، ومنزلة عما في بعضها من "الأغيار والأكدار"، مع أنها تتضمن قصد المكلف للمسببات، فمعنى هذا أنها المرتبة المفضلة لديه.

وهذا يدلنا على أنه إنما جعل للمكلف الخيرة في الالتفات إلى المسببات أو عدمه، مع التسوية التامة بين الأمرين، لأجل ما قد يقع في الالتفات إلى المسببات والتعلق بها من "الأغيار والأكدار". ولأجل هذا امتدح كل مراتب عدم الالتفات إلى المسببات، ولم يمتدح من مراتب الالتفات إليها إلا المرتبة الثالثة. وذلك أن المرتبة الأولى فيها كفر بالله، وفي المرتبة الثانية غفلة عن الله. وهذا ما يعنيه بالأغيار والأكدار. فإذا تبرأ قصد المكلف منها، صار التفاته وقصده إلى المسببات أولى من عدمه. وبهذا نخرج من "التناقض"، ونصل إلى التوافق مع ما قرره في كتاب المقاصد من أن قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع، كما تقدم قريبًا.

وهذا الاحتياط من وقوع المكلف في الأغيار والأكدار، هو الذي جعل الشاطبي يعود إلى الموضوع بعد المسألة التاسعة. ليلحق بها خمسة "فصول"٢ رجح فيها للمكلف عدم الالفتات إلى المسببات وتفويض أمرها إلى الله عز وجل: "لأن الفاعل للسبب عالمًا بأن السبب ليس إليه، إذا وكله إلى فاعله وصرف نظره عنه، كان أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله تعالى، والصبر على


١ الموافقات: ١/ ٢٠٥.
٢ الموافقات: ١/ ٢١٩ إلى ٢٢٧.

<<  <   >  >>