فقد وصف هذه المقدمة بأنها "مسلمة"، وهذا يعني أنه لا خلاف فيها. ومع ذلك فقد احتاج إلى القول:"وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادًا"، وليس هذا شأن المسلمات ثم لست أدري ما عني بقوله:"وليس هذا موضع ذلك"؟ مع أن هذا هو أنسب موضع لذلك. ثم هو قد أقام البرهان فعلًا على صحة القضية وإن كان بإنجاز شديد. ولعله يشير إلى أن البراهين المفصلة للمسألة ستأتي مثبوتة في مواضع أخرى من الكتاب.
ثم استمر في مناقضة قوله "مسلمة"، فذكر أن هذه المسألة "قد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة. كما أن أفعاله كذلك. وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين" فكيف يجتمع هذا مع قوله "مسلمة"؟ إلا أن يقصد أنها مسلمة عنده، أو أنها مسلمة وإن خالف فيها من خالف. وهذا هو الأقرب، ولكن كان ينبغي توضيحه.
فأما كونها مسلمة عنده، فهذا لا شك فيه، بل إنه يعتبرها قضية قطعية، معتمدا في ذلك -كعادته- على الاستقراء. وقد أورد في المقدمة المذكورة طرفًا من هذا الاستقراء الذي يستفاد منه كون الشريعة -جملة وتفصيلا- وضعت لمصالح العباد. ثم قال:"وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة".
وفي مواضع متفرقة، ومناسبات مختلفة يعود ليؤكد ويوضح هذه القضية.
ففي المسألة السابعة من النوع الأول يقول:"إذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات. فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال. وكذلك وجدنا الأمر فيها والحمد لله".