بمقاصد الشريعة من الأصوليين. وإنما كان هذا الإيثار، لأن "إظهار" المقاصد، ولفت الانتباه إليها بشكل مستقل، جاء مع الأصوليين لا مع الفقهاء. فبينما كان الفقهاء منهمكين في بناء الفقه، وتطبيق مقاصده، قام الإصوليون يبرزون معالم ذلك البناء، ويصفون أسسه وأركانه.
ولهذا افترض أن الشاطبي قد تنبه -أول ما تنبه- إلى مقاصد الشريعة، من خلال المؤلفات الأصولية. ذلك أن قارئ أي كتاب من أمهات الكتب الأصولية، أو حتى من مختصراتها وحواشيها، سيجد شيئًا اسمه "مقاصد الشريعة"، وأنه يفيد في ضبط كذا وكذا، وفي ترجيح كذا على كذا، بينما قارئ الفقه ودارسه، قد يدرس عشرات الكتب الفقهية، ويتقن عشرات الأبواب الفقهية، دون أن يكتشف -أو يكشف له- أن هناك روحا يسري في أبواب الفقه وجزئياته، يوجهها ويقيدها ويكيفها. ألا وهو: مقاصد الشارع في التشريع. وحتى إذا اكتشف -بعد مراس طويل- شيئًا من ذلك، فإنه يكتشفه غامضًا مجزءًا. فيحتاج إلى أشواط أخرى من الدراسة والنظر.
وعلى أساس هذا الافتراض رجحت البداية بالأصوليين. ومما يزيد الأمر رجحانًا، أن التناول الإجمالي، والكلام الإجمالي في مقاصد الشريعة، هو عمل أصولي لا فقهي.
وأيضًا، فإن البدء بالأصوليين هو بدء بالجانب المجمل الموطأ من مقاصد الشريعة، ثم تنتقل إلى شيء من التفصيل والتمثيل.