قال الشاطبي:"ليس كما قال، من كل وجه. بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض. ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق، لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة، وذلك لم يكن، وإنما جاء الشرع يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معًا. وقد بث في ذلك من التصرفات، وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه. فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل. اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها. فذلك لا نزاع فيه"١.
٤- وأخيرًا، فإن الناس مهما بلغوا في إدراك وتقدير مصالحهم ومفاسدهم -وقد رأينا حدود ذلك- فإنهم يظلون بحاجة إلى تلك الحوافز الدينية القوية، التي تقوي استعدادهم للالتزام العملي بحفظ المصالح واجتناب المفاسد.
فالدين -باعتبار مصدره- يعطي يقينًا وطمأنينة في التحسين والتقبيح، قلما يعطي العقل شيئًا منهما.
والدين -بإضفائه معنى التعبد والخضوع لله، على جلب المصالح ودرء المفاسد- يعطي للأمور قدسية وجدية، لا سبيل إلى توفيرها إلا به.
والدين -ببعده الأخروي، المتمثل في الثواب والعقاب، وبأسلوبه في الترغيب والترهيب- يوفر حوافز أخرى، تحمل الناس على العمل الصالح البناء، وعلى اجتناب الفساد والضرر. وهذا أيضًا لا يتوفر إلا بالدين، عقيدة وشريعة.
ولأجل هذا كله كانت مصلحة الدين هي أولى المصالح وأولاها بالرعاية والحفظ. فهو منبع لكل مصلحة أخروية ودنيوية.