وقد نبه الشاطبي -غير ما مرة- على هذا المسلك الاجتهادي المنسق بين كليات الشريعة وجزئياتها. وقد تقدمت عدة إشارات إلى هذا. ولكن الموضع الجامع والأهم، الذي عالج فيه هذا الموضوع، هو المسألة الأولى من كتاب الأدلة١، وهي المسألة التي افتتحها بالتذكير بأن الشريعة كلها مبنية "على قصد المحافظة على المراتب الثلاث، من الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات" وأن هذه الكليات: "تقضي على كل جزئي تحتها إذًا ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه، بل هي أصول الشريعة".
ثم قال:"وإذا كان كذلك، وكانت الجزئيات -وهي أصول الشريعة فما تحتها- مستمدة من تلك الأصول الكلية -شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات- فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات، عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها. فمن أخذ بنص -مثلًا- في جزئي، معرضًا عن كليه، فقد أخطأ".
ثم قال:"وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليه فقد أخطأ، فكذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه". "فلا بد من اعتبارهما معًا في كل مسألة".
فهذا هو الاجتهاد الحق، وهذا هو الاجتهاد الأكمل، فكل مسألة تعرض، يجب عرضها على الأدلة الجزئية، وعلى الأدلة الكلية والمقاصد العامة للشريعة. والذي يقتصر في اجتهاده وفتواه على ما فهمه من دليل جزئي "آية، أو حديث، أو قياس"، لا يقل اجتهاده قصورًا واختلالًا عمن ألم بشيء من مقاصد الشريعة في حفظها للمصالح الضرورية والحاجية والتحسينية ودرئها للمفاسد، ثم أخذ يفتي ويحكم دون مراجعة ونظر في الأدلة الخاصة لكل مسألة وكل نازلة. فكلاهما قاصر مقصر عن درجة الاجتهاد الأمثل: