فكيف إذا كان الرجل ملهمًا محدّثًا؟ وكيف إذا اعتصم بالسنة وتحصن بالشورى؟
عمر بن الخطاب هذا، هو الحلقة الأولى في المدرسة الفقهية لأهل المدينة، على ما رأينا.
والذي يتصفح "الموطأ" -مجرد تصفح- يدرك بسهولة أن فقه عمر، وأقضية عمر، وفتاوى عمر، وسنن عمر مهيمنة عليه، بعد سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وكذلك فإن الذين يتكلمون عن الأصول التي يتميز بها المذهب المالكي، لا يجدون أي صعوبة في إدراك أن تلك الأصول، إنما هي أصول "عمرية" قبل أن تكون أصولا "مالكية":
فعمل أهل المدينة يرجع في كثير منه إلى عهد عمر، فضلا عما يرجع منه إلى السنة النبوية نفسها، وإلى سنن الخلفاء الراشدين عموما.
وأما "المصالح المرسلة" و"سد الذرائع"، فعمر رائدها، وسياسته أحسن تطبيق لهما.
فإذا كان لا بد أن ينسب "المذهب المالكي" إلى فرد، فليس هناك أحق من عمر. ولكن الأمر -مع هذا- أوسع من عمر واجتهادات عمر. الأمر يرجع قبل كل شيء إلى الإسلام نفسه. فكل ذلك متأصل فيه نابع منه، ثم جاءت تجربة عمر ومدرسة عمر، مدعمة بالرأي الجماعي للصحابة رضي الله عنهم، ثم توالت الحلقات العلمية الاجتهادية لفقهاء المدينة، ثم كانت حلقة مالك بن أنس.
والاسم الذي يجمع فقه عمر، وفقه مالك، وما بينهما، هو:"مذهب أهل المدينة". وهو الاسم الذي كان يطلق إلى زمان مالك، وبعده، حتى حل محله -شيئًا فشيئًا- اسم "مذهب مالك"، ثم "المذهب المالكي"، بعد أن انتشرت العدوى وعمت البلوى بالانتساب إلى الأفراد والتقيد بهم. وهو باب من أبواب الجمود والانحطاط.