للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هارون إلى بني عمه في مدح البخل وذم الإسراف، مثل على المقالة الفكاهية وهي شديدة الشبه بمقالات أديسون وستيل. ورسالة الصحابة لابن المقفع، مقالة في سياسة الدولة وتدبير الرعية، وفي نقد نظام الحكم ووجوه إصلاحه، ورسائل الجاحظ، وفصول كتبه التي كادت تلم بكل موضوع، وما فيها من فكاهة عذبة، وانطلاق في التعبير وتحرر من القيود، وتدفق في الأفكار وتلوين في الصور، وتنويع في موسيقى العبارات، خير مثل على النموذج المقالي في الأدب القديم. وقد وصفها المسعودي في مروج الذهب، وصفا يدعم هذا الرأي، فقال:

"وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان لأنه نظمها أحسن نظم ورصفها أحسن رصف وكساها من كلامه أجزل لفظ. وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة١.

وحسبنا مثلا على مقالاته التصويرية، كتاب "البخلاء"، الذي صور فيه حياة البصرة وبغداد في عصره، أحسن تصوير وأدقه، وعرض نماذج رائعة من البخل، في أشخاص بعض معاصريه، وبعض من أبدعتهم مخيلته منهم، على غير نسق موجود، وبأسلوب تفرد به وأصبح علما عليه.

وفي القرن الرابع خطت الرسائل المقالية خطوة ذميمة نحو التكلف والرهق، فغدت، وإن تنوعت موضوعاتها، متحجرة الأسلوب، مما يبعدها في نظر النقد عما يقتضيه أسلوب المقالة الحديثة من تدفق وحرية وانطلاق. ولا نجد في هذا القرن كاتبا يعادل أبا حيان التوحيدي في طلاقة تعبيره وغزارة معانيه وبراعة تصويره. فرسائله -على ما يتسم به


١ مروج الذهب ٢: ٣٤٤.

<<  <   >  >>