للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣- المقالة الذاتية:

تبين لنا مما سبق من حديث، أن المقالة الذاتية هي التي احتفظت بالمعنى الأدبي والتاريخي للاصطلاح؛ إذ كانت المقالة في أصلها، كما ذكرنا آنفا، تكتب لتوفر قيما أدبية خاصة، أي أن كاتبها كان يصطنع النثر الفني وسيلة للتعبير عن إحساسه بالحياة وتجربته فيها. وهي في هذا تقابل القصيدة الغنائية "لأن كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، وتتغلغل في ثنايا روحه حتى تعثر على ضميره المكنون. فكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة. تعلو وتتناغم فتكون قصيدة أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية"١. ولعلنا نقع على خير صورة لهذا النوع من المقالة عند مونتين؛ إذ جعل "نفسه" المحور الذي تدور عليه جميعا، وانصرف إلى التحدث إلى قرائه، عارضا عليهم تأملاته ونظراته في الحياة والناس، مقبلا تارة مدبرا أخرى، محبا هنا مبغضا هناك. وهو في ذلك لا يعني بتهذيب أفكاره ونظراته وتشذيبها، فقد يسهب في موضع حين يجد مجال القول ذا سعة، وقد يوجز في موضع آخر حين يكل قلمه أو لا يلفي في نفسه رغبة في الإسهاب. بيد أنه في كل ذلك، كان ينظر إلى شئون الحياة والأدب بمنظاره الخاص، معريا نفسه للقارئ، نابشا عن أعمق أعماقه، بأسلوب ساذج رخو، هو أسلوب الحديث العادي الذي يمتاز بالبساطة واليسر والسلاسة والتنوع.

وقد لاحظنا من التعريفات السابقة، أن من شروط المقالة الذاتية أن تكون على غير نسق من المنطق وأن تسير رخاء دون تكلف للتنسيق أو افتعال للترتيب، ودون أن يتورط كاتبها في الإسراف في الوعظ والإرشاد. وقد عبر أحد المقاليين عن هذه المعاني جميعا حين خاطب كتاب المقالة عندنا بقوله:

"كلا ليس للمقالة الأدبية، ولا ينبغي أن يكون لها نقط ولا تبويب ولا تنظيم. فإن كانت كذلك فلا عجب أني ينفر القارئون -أيها الأدباء- من قراءة ما تكتبون. لا تعجبون يا قادة الأدب المصري ألا يقرؤكم إلا قلة من طبقة القارئين؛ لأنكم تصرون على أن يقف الكاتب منكم إزاء قارئه


١ زكي نجيب محمود: جنة العبيط ص١٠.

<<  <   >  >>