للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢- فرنسيس باكون:

لقد طبقت شهرة مونتين ومقالاته أرجاء القارة الأوروبية، ولم يمض غير قليل وقت حتى عبرت المانش إلى إنكلترا، ففي سنة ١٥٩٥، أي بعد وفاته بثلاث سنوات، ترجم جون فلوريو، أحد نظار المدارس الإنكليزية، هذه المقالات، في صورتها الأخيرة، ولعل هذه الترجمة هي التي امتثلت للطبع سنة ١٦٠٣. وقد لاقت إقبالا منقطع النظير فطبعت مرات عدة، في أوائل القرن السابع عشر. وغدت بذلك غذاء دسما للقارئ الإنكليزي في عصر الياصبات، وعكف عليها وتأثير بها بعض كبار الأدباء في ذلك العصر.

وأول أثر أدبي في اللغة الإنكليزية، اتسم بميسم هذا الفن الجديد، كان مجموعة من المقالات التي دبجها يراع محام ناشئ كان في خدمة الملكة آنذاك، وهو فرنسيس باكون، وكان ذلك سنة ١٥٩٧. وكانت عدتها عشرا، لا تحمل منسمات فن مونتين إلا الاسم؛ إذ كانت أقرب إلى الأمثال والحكم منها إلى الفيض الأدبي المتدفق الذي عرفناه عند مونتين. وهي بهذا تنتمي إلى كتابات القرن السادس عشر، خارج الدائرة المونتينية، ففيها من تلك ذلك الحرص على إيراد الأقوال السائرة والأفكار الحكمية المركزة. وينعدم فيها العنصر الشخصي، وصور التجارب الخاصة. وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذا الفرق بينه وبين مونتين فقال:

"فمونتين فياض مسترسل كثير الأغواص متعدد الملامح الشخصية قريب في أسلوبه إلى أساليب المقاليين المحدثين، ولكن باكون -على دابة في جميع محاولاته- كان أقرب إلى الاحتجاز والتركيز ودسومة المادة الفكرية واجتناب الألوان الشخصية والملامح الخاصة التي تنم عليه وعلى الجانب الإنساني فيه"١.

وهذا الفرق الذي لمسناه بينهما، والذي أشار إليه الأستاذ العقاد، ناجم عن تباين مذهبيهما في تلقي الحياة والصدور عنها. أما مونتين فقد اعتزل الناس والحياة ليخلو إلى نفسه يتأملها ويستبطن أغوارها، وهكذا


١ عباس محمود العقاد: فرنسيس باكون، ٨٢.

<<  <   >  >>