٢- التمييز بين المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية:
وحوالي نهاية القرن الماضي أصبحت المقالة مطية ذلولا لجميع الكتاب يلجئون إليها لعرض تأملاتهم الذاتية أو أفكارهم الموضوعية، دون أن يتقيدوا بالتقليد الذي وضعه مونتين أو باكون. وهكذا وسعت المقالة خواطر شارلس لام ومقطوعاته التي تتسم بميسم الغنائية الذاتية، كما وسعت دراسات كارليل التاريخية، ودراسات ماثيو أرنولد النقدية، ومباحث الدوس هكسلي العلمية. وبهذا نضت عنها الثوب القديم؛ إذ بدا مهلهلا، وأرتدت ثوبا قشيبا، وغدت في عرف الأدباء والدارسين قطعة نثرية تدور حول موضوع من الموضوعات، ومن شأنها أن تروق القارئ وتستهويه؛ لأن الكاتب بذل جهده في تجلية ذاك الموضوع في حلة أنيقة ملائمة. ومن طبيعة الفنون الأدبية إلا تنحصر في نطاق محدود صلب الأطراف، بل هي كالأواني المستطرفة، يعدو كل منها على أخيه، ويفيد منه. وهكذا استغلت المقالة الفنون الأخرى فأخذت من السيرة والقصص رسم الشخصيات ومن المسرحية الحوار ومن القصيدة النائية النفحة الشعرية.
وتسهيلا للبحث، نلجأ إلى تقسيم المقالة الحديثة إلى نوعين هما: المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية. بيد أنه ليس من السهولة بمكان وضع حدود فارقة بين هذين النوعين، إلا أن محك التمييز الصادق بينهما، هو مقدار ما يبثه الكاتب في كل منهما من عناصر شخصية. ففي النوع الأول تبدو شخصية الكاتب جلية جذابة تستهوي القارئ وتستأثر بلبه، وعدته في ذلك الأسلوب الأدبي الذي يشع بالعاطفة ويثير الانفعال، ويستند إلى ركائز قوية من الصور الخيالية والصنعة البيانية والعبارات الموسيقية والألفاظ القوية الجزلة. والمثل الواضح على ذلك مقالات لام في الأدب الإنكليزي ومقالات المازني في أدبنا. وفي النوع الثاني تستقطب عناية الكاتب، ومن ثم القارئ، حول موضوع معين، يتعهد الكاتب بتجليته، مستعينا بالأسلوب العلمي الذي ييسر له ذلك. ومن خصائص