ظهرت بذور الأدب المقالي، بأنواعه المختلفة، في الآداب القديمة قبل القرن السادس عشر. وهذا الأمر ليس مظنة الاستغراب، فالمقالة في حقيقتها، شأن سائر فنون الأدب الأخرى، تقوم على ملاحظة الحياة وتدبر ظواهرها وتأمل معانيها. وهذه ظاهرة نفسية رافقت الانسان منذ ظهوره على وجه الأرض؛ إذ هي مركبة في طبيعته، بل هي جوهر جبلته التي فطر عليها. وقد عبر عنها منذ فجر التاريخه في تهاويل السحر ورسوم الكهوف، ووجدت في أحاديثه ومسامراته قبل عهد التدوين متنفسا ومراحا, وأصبح من عادة هذا الإنسان المتأمل فيما بعد، أن يدون نتيجة تأملاته وخاطراته على صورة ساذجة تتسم بالبساطة والعفوية دون أن يشق على نفسه في خلق قالب فني محدد، أو لعله لم يكن من الفطنة والحذق بحيث يتيسر له ذلك. وهذا ما نجده في أمثال الأمم وجوامع كلمها وللعرب حظ عظيم منها يرجع إلى عهود موغلة في القدم، وعليها يعتمد الباحثون في دراسة تطورهم العقلي، والمرتبة التي بلغوها في تمرسهم بالحياة واختيارهم لها وتأملهم معانيها. ثم إن لها فائدة أخرى في نظر الباحثين، فهي تختلف عن الشعر بصدورها في الأكثر عن عامة أبناء الشعب وأوشابهم، بينما يصدر الشعر عن طبقة ترتفع بعقليتها عن مستوى العوام، وتلتمس لفنها ألوانا من الصقل والتهذيب، لا يأبه لها أصحاب الأمثال الذين اعتادوا أن يلقوا بها في المناسبات التي تعرض لهم، تعبيرا ساذجا سريعا عن إحساس فطري تلقائي. وهذا هو شأن الأمم جمعاء في أطوار بداوتها. والمثل قريب بطبيعة وضعه وصياغته من فن المقالة، التي أراد لها مونتين أن تكون صورة صادقة عن إحساسه بالحياة وتأمله لها، لا يلحقها أي تشذيب أو تصنع.
وخير صورة نقع عليها لمثل هذه الحكم الشعبية، ما نجده في بعض أسفار العهد القديم، وخاصة في أسفار الحكمة وهي "الأمثال" و"الجامعة" و"سفر يشوع بن سيراخ". فهذه الأسفار الثلاثة، توضح لنا المراحل الثلاث، التي تجتازها الملاحظات العابرة، حتى تغدو نوعا من الأدب المقالي. ففي المرحلة الأولى تظهر على صورة الأمثال والأقوال