للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أوروبا عن الآداب القديمة. وأخذ كتّاب عصر النهضة يختارون منها، ويزيدون عليها، ما يلائم ثفافة العصر وذوقه وروحه. ولهذا وجدناهم يجمعون الحكم والأقوال السائرة، التي تدور حول الحياة والموت، وحول بعض العادات الغريبة، وذكاء الحيوان وقوة الخيال، ولم يكن لهم فيها سوى فضل الاختيار والجمع والتنسيق، أما شخصياتهم فلم تظهر في هذه المجموعات، ولم يكن طبيعيا أن تظهر.

وعندما بدأ مونتين الكتابة، حوالي سنة ١٥٧١، استوحى كتّاب هذه المواعظ والدروس الخلفية. ولم يكن شاذا ولا منحرفا في هذا الاستحياء؛ إذ إن الدافع الذي استحثه على الكتابة كان في طبيعته أخلاقيا تهذيبيا. ولم يكن يطمح آنذاك إلى أن يأتي بعمل فذ جديد، بل كان كل ما يطمح إليه، هو أن يضفر ضميمه من تلك العبارات والأفكار الجميلة الرائعة التي يعبر بها أثناء قراءته. وتبعا لذلك كانت آثاره الأولى لا تختلف اختلافا بينا عن آثار هؤلاء الجماع "المؤلفين"؛ فهي عبارات ملتقطة من هنا وهناك، تدور حول بعض المشكلات الخلقية والمعاشية. وكان كلما مضى في كتابته قدما، يضيف عبارة هنا أو تعليقا هناك. إلا أن هذه الآثار عامة كانت تخلو من العنصر الذاتي خلوا يكاد يكون تاما. وهذه المرحلة التجريبية تمثل الطور الأول من نمو مونتين الأدبي، وقد استغرقت العامين الأولين من أعوام عزلته.

ولكنه ما عتم عقب ذلك، أن أخذ يشق طريقه نحو إبداع فن جديد، يبتعد فيه عن تلك الدروس الخلفية التي احتذى فيها آثار سابقية. وقد حدث ذلك حوالي سنة ١٥٧٤م، وكانت النتيجة التي خلص بها في هذا الطور، هي إبداع هذا الفن الأدبي الجديد، الذي سجل له التاريخ فيه فضل الريادة، وكان ذلك قبل أن تظله سنة ١٥٨٠م.

<<  <   >  >>