للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولعل السبب الأول الذي أدى إلى هذا التطور هو مزاجه الخاص, والظروف التي أحاطت به آنذاك. فقد استغرق مونتين أثناء عزلته في بعض التأملات، وأخذ ينظر إلى مجتمعه بعين ناقدة، ويستبطن أعماق نفسه بعقل ممحص، وخاصة في فترة المرض الذي انتابه حوالي ١٥٧٨. ولكن هذا كله لا يعلل هذا الاكتشاف الذي توصل إليه، بل كانت ثمة تيارات أدبية قوية، رفدت هذا المجرى الصغير في نفسه، واعدته للاضطلاع بهذه المهمة خير إعداد وأتمه.

تنبئنا المصادر، أنه وقع في سنة ١٥٧٢ تحت تأثير كتابات فلوطارخوس؛ وقد وجد فيها، وخاصة في "الأخلاقيات"، بعض النماذج الأدبية الحية التي تختلف اختلافا بينا عن تلك الشذور الجافة التي كانت عينه تقع عليها في آثار معاصريه، فتكون زادا لقلمه الغض الناشئ. ولم تكن كتابات فلوطارخوس تخلو من الأمثال والأوابد والأقوال السائرة، إلا أن هذه لم تكن قوام فنه الأدبي، بل كانت تمر عرضا أثناء تأملاته وتكتسي بحلة من بيانه الرائع، وتطفو إلى السطح بعد أن تنقحها آراؤه الشخصية، وتخلصها من شوائب الفتور والجمود التي تخالط الحِكم الشعبية عندما تنبت عن مناسباتها الأولى التي ألقيت فيها. وقد تأثر مونتين أيما تأثر بمسحة الطلاقة واليسر التي تلف كتابات فلوطارخوس فتخرج سليمة من التكلف والرهق. وقضى مدة طويلة عاكفا على هذه الآثار الممتعة يستنطقها فتجيب ويستلهمها فينهمر عليه وحيها، والعملية الأدبية سائرة في نفسه سيرتها الطبيعية، تصقل ذوقه وتنقح تعبيره وتمده بصور جديدة وأحاسيس مبتكرة.

وسيرة هذا التحول تتضح في بعض كتاباته التي خطها ببراعه بين سنتي ١٥٧٨ و١٥٨٠، وخاصة في "تربية الأولاد" و"حب الآباء

<<  <   >  >>