للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يراجع ما يملي، بل الأمر يرجع في اعتقادنا إلى سببين جوهريين: أولهما أن ما أصيب به في حياته من فقد بصره، كان له تأثير لا نستطيع أن نقدر كل مداه، في الأسلوب الذي يتناول به موضوعاته، وفي طريقة العبارة عن معانيه وأغراضه. ولسنا نتحرج أن نذكر ذلك، فإنه أعرف بنا من أن يشك في عطفنا، بل نحن أعلى به عينا وأسمى تقديرا من أن نعتقد أن به حاجة إلى هذا العطف. وليس يخفى أن المرء إذا حيل بينه وبين المرئيات ضعف أثرها في نفسه، ولم تعد الكلمة الواحدة تغني في إحضار الصورة المقصودة إلى ذهنه بالسرعة والقوة الكافيتين، فلا يسعه إلا الإسهاب ومحاولة الإحاطة ومعالجة الاستقصاء والتصفية.

وثاني هذين السببين أنه أستاذ مدرس وقد طال عهده بذلك، والتعليم مهنة تعود المشتغل بها التبسط في الإيضاح، والإطناب في الشرح والتكرير أيضا، بل تفعل ما هو شر من ذلك: وأعني أنها تدفع المرء عن الأغوار والأعماق إلى السطوح. وبعبارة أخرى تضطر المدرس أن يجتنب التعمق والغوص، وأن يكتفي -ما وسعه الاكتفاء- بما لا عسر في فهمه ولا عناء في تلقيه"١.

أما أحمد أمين، فشأنه غير هذا الشأن؛ إذ إن جانب العقل عنده يطغى على جانب العاطفة، وهو يتلقى الحياة بعقله وتفكيره ولا يلتهمها بقلبه وشعوره، وهو من أصحاب المعاني لا من أصحاب الألفاظ، ولذا امتاز أسلوبه بالوضوح في التعبير، والدقة في الوصف، والإيجاز في العرض، على طريقة الكتاب الذين يستمدون صورهم من واقع الحياة البسيطة التي يحيونها. وهو في حرصه على تصوير هذا الواقع لا يستنكف عن استعماله الألفاظ العامية والتعبيرات الإقليمية، التي يظهر أنه كان مفتونا بها، حتى


١ قبض الريح: ص٣٨، ٣٩.

<<  <   >  >>