للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مبادرته باللهو والعبث واللامبالاة. فمرحه مبطن بحزن دفين. فهذا المرح المولع بالفكاهة والنكتة يقشعر بدنه ويقف شعره عند ذكر الموت. وهذا الشاك الذي لا يؤمن بأي شيء، يتعلق دوما بحبال الدين، ويتدنى في إيمانه إلى منزلة إيمان العجائز. ويرنو بعينيه إلى المثل العليا، ولكنه يرى في نفسه عجزا عن بلوغها، منبعه كسل ركب في طبيعته، أو شك في مقدرته وفضائله. وهو أثناء ذلك كله متمسك بأثارة من الفكاهة التي تظهر على صور مختلفة، وتتجلى في مواقع متباينة، هي مرح سطحي هنا، وعبث لاه هناك، وسخرية لاذعة مرة هنالك. وبهذا وحده كان المازني نسيج وحده في أدبنا بل هو ظاهرة لم تتكرر في أدبنا المعاصر، وإن تكررت مرتين في أدبنا -في الجاحظ والشدياق.

ويمتاز أسلوب مي بالتنوق في اختيار الألفاظ ذات الجرس المؤثر، والعبارات الأنيفة الرشيقة، والوضوح الذي ينفي كل لس وإبهام. وهو ينم عن عناية فائقة بالصقل والتهذيب، واحتفال شديد بتوازن العبارات في موسيقى عذبة هادئة. وهي تحرص على تنسيق الجمل في وحدات مترادفة متساوقة، على ألا يؤدي ذلك إلى الرتابة والإملال، بل هي في كل موقف تفجؤك بنغم جديد، يوقظ حواسك ويثير انفعالك، ثم تتبعه وتستقصيه، خافتة هنا، صاخبة هناك كأنها تعزف قطعة موسيقية بعيدة الأغوار متباينة الجرس إلا أنها منسقة الألحان، منسجمة الأنغام. ولعل لشغفها بالموسيقى وتدلهما بها إلى حد العبادة، وبراعتها في العزف على عدد من آلاتها، أثرا في خلق هذا الأسلوب الموقع المتماوج، وفي تراوح نغماته بين الغموض والوضوح، والشدة واللين، والقوة والضعف، تبعا لتغير الموضوعات واختلافها، بين خاطرة شعرية ومقالة اجتماعية ودراسة أدبية.

<<  <   >  >>