للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

البارعة، فتدفق في حديثه وتبسط، وأفرغ ما في نفسه دون تمويه أو تصفية؛ وكأنه يرى أن حياته الخاصة ملك للبشرية، فلا يضن بها على الورق، صدقهتا القارئ أو لم يصدقها. وهو لا يعرض الموضوع بمقدماته ونتائجه، ليقدم إليك صورة واضحة عن عملية التفكير، بل يحيلك إلى موضع الأسرار من نفسه، فيعرض عليك انبثاق التجارب فيها ونموها واكتمالها. وهو يرى أن كل شيء تقع عليه عينه يصلح لأن يكون موضوعا للكتابة، فهو يتقبل المنحة سواء كانت من يد عجوز شمطاء، أو من يد غادة لعوب. وعالمه هو عالم الأساطير والخرافات الشعبية، تتنزى فيه أشباح الموتى واللصوص وقطاع الطرق وخفافيش الليل. في صميم قلبه حزن دفين يعبث به ويخفف وطأته على نفسه بالسخرية والضحك، وإحساس بضياع الحقيقة في مجتمعه، فهو يدور من حولها، ويحوم ولا يرد. يضحك من نفسه ومن قارئه ويجسم عاهاته ونقائصه، ويتصرف تصرفات "دونكيشوتية"، ويجول في آفاق الحلم واليوتوبيا، وهو قادر على أن يفاجئك دائما وإن يأتيك من مأمنك، بذهن متوقد وحيوية متدفقة ومرح يبعث على الضحك المجلجل الصريح.

يبدأ مقالاته أحيانا ببعض الخواطر العابرة أو الأفكار التافهة، ثم ينتقل إلى الجد، ولكن بطريقته الخاصة؛ وهو يخدع القارئ عن نفسه ويوقعه في حبائله بسهولة ويسر، حتى يظن أنه أمام عابث لاه، لا عمل له إلا السخرية والضحك، ولكنه في الحقيقة، بعيد الغور عميق القرار.

فهو حين يحدثك عن خصوصياته، عن زوجه وابنته وأبنائه وجدته العجوز، يشعرك بأنه يجاذبك أطراف حديث سخيف، لتزجية الفراغ وقتل الوقت. فلا تنخدع بذلك، إنه يخفي عنك جوهر الحقيقة حقيقة النفس المتألمة الحزينة التي ترى أن خير وسيلة لنساين الألم، هي

<<  <   >  >>