وابن عمر كان يسلم إذا قدم من سفر لم يقل قط أنه سمع الرد، وكذلك التابعون وتابعوهم، وإنما حدث هذا في بعض المتأخرين، وكذلك لم يكن أحد من الصحابة يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به، حتى ابنته فاطمة لم يطمع الشيطان أن يقول لها اذهبي إلى قبره، فسليه هل يورث أم لا يورث كما أنهم أيضاً لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم: اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا، ولا قال: أطلبوا منه أن يستنصر لكم، ولا أن يستغفر لكم كما كانوا في حياته يطلبونه منه أن يستسقي لهم، وأن يستغفر لهم، فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته أن يطلبوا منه ذلك، ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة، وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة فأضله الشيطان، كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.
وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء، ولا أن يقطع به الأرض في مدة قريبة كما يقع مثل هذا الكثير من المتأخرين، لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات؛ كسفر الحج والعمرة والجهاد وهم يثابون على كل خطوة يخطونها فيه، وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم، كالذي يخرج من بيته إلى المسجد فخطواته إحداهما ترفع درجة، والأخرى تحط خطيئة، فلم يمكن الشيكان أن يفوتهم ذلك الأجر بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزاً حتى يقطعوا المسافة البعيدة بسرعة، وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أسري به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته وأنه أراه من آياته الكبرى وكان هذا من خصائصه، فليس لمن بعده مثل هذا المعراج، ولكن الشياطين تخيل إليه معارج شيطانية، كما خيلتها لجماعة من المتأخرين.
وأما قطع النهر الكبير بالسير على الماء، فهذا قد يحتاج إليه المؤمنون أحياناً مثل أن لا يمكنهم العبور إلى العدو وتكميل الجهاد إلا بذلك، فلهذا كان الله يكرم من يحتاج إلى ذلك من الصحابة والتابعين بمثل ذلك أكرم به الملاء بنت الحضرمي وأصحابه وأبا مسلم الخولاني وأصحابه، وبسط هذا له موضع آخر غير هذا الكتاب.
لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء فما ظهر فيهم بعدهم مما يظن أنها فضيلة للمتأخرين، ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة سواء كانت من جنس العلوم، أو من جنس العبادات، أو من جنس الخوارق والآيات، أو من جنس السياسة والملك، بل خير الناس بعدهم أتباعهم لهم.