حتى تأتي على الأخضر واليابس. لا حاكم يزجرهم ولا دين يردعهم.
وبالجملة فقد كانوا في فتن مدلهمة، وظلمات بعضها فوق بعض، حتى ضجت الجزيرة العربية من الحروب المتلاحقة، واشتكت الأرض إلى ربها من هذه الدماء المسفوكة. وتشوقت النفوس إلى من ينتشلها من ظلمات الحيرة، وينقذها من أحضان الجهل والوحشية. وجعلوا يلتمسون الخلاص مما هم فيه، فلا يستطيعون كالذي يبسط إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه.
فكان من رحمة الله بهم وبالإنسانية جمعاء، أن بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وهذا الرسول هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أشرف الناس نسبا، وأكرم قريش أصلا ومحتدا. بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله سرا، حتى لا يفاجأ القوم بها وهم على ما وصفنا غارقون، فيجهلهم هائمون في غيهم، فتبعه منهم أفراد قلائل لا يتجاوزون أصابع اليد، ثم جهر بالدعوة إلى الله عز وجل، فدخل في الدين من علية القوم خلق كثير.
دخلو الإسلام على بينة من أمره، واستمعوا إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم فخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، لا سيما وهم متعطشون إلى ما ينقذهم من ظلمات الشرك، ويهديهم إلى سبل السلام، فصادف الإسلام قلوبا مستعدة، ونفوسا متلهفة متهيأة، فتمكن منها كل التمكن، وجرى الإيمان فيهم مجرى الدم في عروقهم. ذلك أنهم عرفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم، أن هذا الدين هو منبع سعادتهم، ومعقد عزهم وسبب نهضتهم، فعقدوا عليه خناصرهم، وأحبوا رسول الله حبا، يعلو على حب الآباء والأبناء، وانكبوا على ما جاءهم به من القرآن
يحفظونه، وعلى ما حدثهم به من بيان للكتاب، أو تشريع للأحكام فجمعوه في صدورهم