الجنة" رواه مسلم: "من سئل عن علم فكتمه، جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار"، رواه أبو يعلى ورواته ثقات. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة وشهيرة.
ملكت هذه الآيات والأحاديث على الصحابة مشاعرهم، وأخذت عليهم ألبابهم وأفعمت قلوبهم حبا لله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وألهبت نفوسهم نشاطا نحو العلم والعمل، فلم يدخروا وسعا في حفظ الأكام، والسنن وضحوا في سبيل ذلك بأموالهم وأنفسهم.
وإلى جانب هذه الحمية الدينية استعداد فطري، ونشاط طبيعي هو استعداد الحافظة، ونشاط الذاكرة وسرعة الخاطر، وقوة الذكاء وكمال العبقرية.
فالصحابة عرب خلص أميون لا يقرؤون، ولايكتبون فكل اعتمادهم على ملكاتهم في الحفظ، وقوة شأنهم فيه، واعتبر ذلك بحالهم في الجاهلية، فقد حفظوا أنسابهم ومناقبهم وأشعارهم، وخطبهم وكثيرا ما كانت تقع بينهم المفاخرة بالأنساب، والأحساب فلا يسعفهم غير اللسان يثيرون به ما حفظوه من أخبارهم، وأخبار خصومهم مما يرفع من شأنهم، ويحط من شأن أعدائهم. فكان كل امرئ منهم على مقدار حفظه، وقوة وعيه ترجمان قبيلته يرفع من قدرها، ويتحدث عن مفاخرها وأحسابها، والقوم من ورائه كأنهم سجل ملئ بالحواد والأخبار، وكتاب شحن بالتواريخ والآثار. ساعدهم حبهم للتفاخر بالأحساب، والأنساب والتنابز بالمثالب والألقاب مع ما رسخ فيهم من عصبية قبلية على إجادة الحفظ، والضبط ونشاط في الذاكرة لم يتوفر لأمة من الأمم.
وكأن الله تعالت قدرته، هيأ هذه الأمة العربية على هذا الاستعداد الهائل، إرهاصا لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الصدور.