للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا لا يمكنه دفعه وهو الغالب في الناس، وإما غالبٌ للطبع بالرياضة، فيمكنه دفعه، ولولا ذلك. . لكان قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "لا تغضب" تكليفًا بما لا يطاق.

والحاصل: أن أقوى أسباب رفعه ودفعه التوحيد الحقيقي، وهو اعتقاد أنْ لا فاعل حقيقةً في الوجود إلا اللَّه تعالى، وأن الخلق آلاتٌ ووسائط:

- كبرى وهي: مَنْ له عقلٌ واختيارٌ كالإنسان.

- وصغرى وهي: مَنِ انتفيا عنه كالعصا المضروب بها.

- ووسطى وهي: مَنْ فيها الثاني فقط كالدواب (١)، فمن توجَّه إليه مكروهٌ من غيره وشهد ذلك التوحيد الحقيقي بقلبه. . اندفع عنه غضبه؛ لأنه إما على الخالق وهو جراءةٌ تُنافي العبودية، أو على المخلوق وهو إشراكٌ ينافي التوحيد، ومن ثَمَّ خدم أنس رضي اللَّه تعالى عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عشر سنين، فما قال لشيءٍ فعله: لِمَ فعلته، ولا لشيءٍ تركه: لِمَ لمْ تفعله (٢)، ولكن يقول: "قدَّر اللَّه ما شاء، وما شاء فعل"، أو: "لو قدر اللَّه. . لكان" (٣)، وما ذاك إلا لكمال معرفته صلى اللَّه عليه وسلم بأَنْ لا فاعل ولا معطي ولا مانع إلا اللَّه تعالى، ولا ينافي ذلك (٤) ما صح: أن موسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضلُ الصلاة والسلام اغتسل عريانًا في خلوةٍ، ووضع ثيابه على حجرٍ، ففرَّ بها، فعدا وراءه يقول: (ثوبي حجر، ثوبي حجر) (٥)، ويضربه بعصاه حتى أثَّرت فيه، فرآه بنو إسرائيل، وبطل كذبهم عليه بأنه إنما يختلي عنهم في الغسل لأُدْرَةٍ به (٦)؛ لأنه لم يغضب عليه غضب انتقام، بل غضب تأديبٍ وزجر؛ لأن اللَّه تعالى خلق فيه حياة فصار كدابةٍ نفرت من راكبها.


(١) الثاني: هو الاختيار؛ أي: أن الدواب لها اختيارٌ دون عقل.
(٢) أخرجه الإمام أحمد (٣/ ١٩٧)، وعبد الرزاق في "المصنف" (١٧٩٤٦).
(٣) أخرج ابن حبان (٧١٧٩)، والضياء في "المختارة" (١٨٣٤) نحوه.
(٤) أي: كون التوحيد الحقيقي أقوى أسباب دفع الغضب أو رفعه.
(٥) قوله: (ثوبي حجر ثوبي حجر): (ثوبي) منصوب بفعل مضمر، التقدير: أعطني ثوبي أو اترك ثوبي، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه، و (حجر) منادى مفرد محذوف منه حرف النداء؛ أي: يا حجر، فإن قيل: كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء مَن يعقل؟ قلت: لأنه صدر منه فعل مَن يعقل. اهـ "الفتوحات الوهبية" (ص ١٦٥)
(٦) أخرجه البخاري (٣٤٠٤)، ومسلم (٣٣٩) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. والأُدْرة: انتفاخ في الخصية.

<<  <   >  >>