للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يفتح؛ وهو لغةً: الإعراض عن الشيء احتقارًا له، من قولهم: شيءٌ زهيد؛ أي: قليل، وفي خبر: "إنك لزهيد" (١)، وفي آخر: "أفضل الناس مؤمنٌ مُزْهَد" (٢) أي: قليل المال، وزهيد الأكل: قليله.

وشرعًا: أخذ قدر الضرورة من الحلال المتيقن الحل, فهو أخص من الورع؛ إذ هو ترك المشتبه، وفيهما أقوال أخر، وهذا هو زهد العارفين، وهو المراد هنا، وأعلى منه زهد المقربين؛ وهو الزهد فيما سوى اللَّه من دنيا وجنة وغيرهما؛ إذ ليس لصاحب هذا الزهد مقصدٌ إلا الوصول إليه تعالى والقرب منه، ويندرج فيه كل مقصودٍ لغيرهم (كل الصيد في جوف الفرا) (٣).

وأما الزهد في الحرام. . فواجبٌ عامٌّ، وفي المشتبه فمندوبٌ عام، وقيل: واجب؛ كما مر ذلك مبسوطًا بأدلته مع بيان الرد على من اعتمد الوجوب.

(في الدنيا) باستصغار جملتها، واحتقار جميع شأنها؛ لتصغير اللَّه تعالى لها، وتحقيره إياها، وتحذيره من غرورها في آيٍ كثيرةٍ من كتابه العزيز؛ نحو: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ}. . . إلى {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} لأن استصغارها واحتقارها كذلك يستلزم إهانتها، وترك ما لا قربة فيه من لذَّاتها، والإعراض عن شهواتها ورَاحاتها، والاقتصار على أدنى ما يقيم نفسه، اللهم إلا زائدًا نُدِب أخذه؛ كاتخاذ ثوبٍ ثانٍ لنحو جمعةٍ أو عيدٍ بقصد إظهار النعمة؛ لأنه تعالى يحب إظهار أثر نعمته على عبده كما في الحديث، أو راحة نُدِب فعلها كنوم القيلولة؛ للاستعانة به على قيام الليل.

فالزاهد: المستصغر المحتقر للدنيا كما تقرر، فلا يفرح بشيءٍ منها، ولا يحزن على فقده، ولا يأخذ منها إلا ما يُعينه على طاعة ربه، أو ما أُمِر بأخذه، مع دوام الذكر والمراقبة والتفكر في الآخرة، وهذا أرفع أحوال الزهد؛ إذ مَنْ وصل إليه. .


(١) أخرجه ابن حبان (٦٩٤١)، والترمذي (٣٣٠٠) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه.
(٢) ذكره العلامة المناوي رحمه اللَّه في "فيض القدير" (٢/ ٥٠). وقوله: (مزهد) بضم الميم وسكون الزاي وفتح الهاء: قليل المال.
(٣) تقدم تخريجه (ص ٩٣).

<<  <   >  >>