للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومثل هذا هو الذي تكون الدنيا سجنه، كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر".

ومن ثم قال أئمتنا: لو أوصى لأعقل الناس. . صُرف للزهاد؛ أي: لأنه لا أعقل منهم، حيث آثروا الباقي على الفاني.

ومنها: استحضار أن لذاتها شاغلةٌ للقلوب عن اللَّه تعالى، ومنقصةٌ للدرجات عنده، وموجبةٌ لطول الحبس والوقوف في ذلك الموقف العظيم للحساب، والسؤال عن شكر نعيمها.

ومنها: كثرة التعب والذُّل في تحصيلها، وكثرة غبونها، وسرعة تقلُّبها وفنائها، ومزاحمة الأراذل في طلبها، وحقارتها عند اللَّه تعالى، ومن ثم قال الفضيل: (لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت عليَّ حلالًا لا أُحاسب عليها. . لتقَدَّرتها كما تُتَقَذَّر الجيفة) (١).

ومنها: استحضار أنها وما فيها ملعونةٌ، كما في الحديث الحسن: "الدنيا ملعونةٌ (٢)، ملعونٌ ما فيها إلا ذكر اللَّه وما والاه، وعالمٌ، أو متعلِّم" (٣)، وفي رواية: "إلا ما ابتُغِيَ به وجه اللَّه تعالى" (٤) أي: أنها وما فيها مبعدٌ عن اللَّه تعالى


(١) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (٨/ ٨٩)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٤٨/ ٤١٤). وكان سيدنا علي رضي اللَّه عنه يقول: (الدنيا جيفة، فمن أراد شيئًا منها. . فليصبر على مخالطة الكلاب) قلت: والمراد بالدنيا: ما زادت على الحاجة الشرعية، بخلاف ما دعت الضرورة إليه. اهـ هامش (غ)
(٢) لأنها غرت النفوس بزهوتها ولذتها، وأمالتها عن العبودية إلى الهوى حتى سلكت غير طريق الهدى، أخرج أبو نعيم في "الحلية" (١/ ٨٤ - ٨٥) عن أبي صالح قال: دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية رضي اللَّه عنه فقال له: صف لي عليًا، فقال: أَوَتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك، فأخذ يصف سيدنا عليًّا رضي اللَّه عنه، ومما قاله: فأشهد باللَّه لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه يميل في محرابه، قابضًا على لحيته، ويتململُ تململَ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: (يا ربنا يا ربنا -يتضرع إليه- ثم يقول للدنيا: إليَّ تغررتِ، إليَّ تشوفتِ، هيهات هيهات، غرِّي غيري، قد بتتك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آهٍ آه من قلة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق) فوكفت دموع معاوية رضي اللَّه عنه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: (كذا كان أبو الحسن رحمه اللَّه. . .).
(٣) أخرجه الترمذي (٢٣٢٢)، وابن ماجه (٤١١٢) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(٤) عند الطبراني في (مسند الشاميين) (٦١٢) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه.

<<  <   >  >>