للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهو لغةً وشرعًا: تمني زوال نعمة المحسود وعودها إليك، من: (حسد يحسُد) بضم عين مضارعه وكسرها حَسْدًا وحَسَدًا -بالتحريك- وحسادة، يتعدَّى بنفسه وبـ (على).

وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين. . . " الحديث (١). . فليس إباحةً للحسد فيهما؛ لأنه لا يباح بوجهٍ من الوجوه، وإنما المراد به: الغبطة؛ أي: ليس شيءٌ من الدنيا حقيقًا بالغبطة عليه إلا هاتان الخصلتان: العلم، وإنفاق المال في سبيل اللَّه تعالى (٢)، وفارقت الحسد بأن فيه مع تمني مثل ما للغير تمني زواله عنه، وهي ليس فيها إلا تمني الأول فقط.

ووجه ذمه وقبحه: أنه اعتراضٌ على الحق ومعاندة له؛ حيث أنعم على غيره، مع محاولته نقض فعله تعالى وإزالة فضله، ومن ثم قال أبو الطيب: [من الطويل]

وأظلمُ أهلِ الأرضِ مَنْ كان حاسدًا ... لمن بات في نعمائه يتقلَّبُ (٣)

ومن الحكمة: أن الحسود لا يسود.

ولقد أُنشد: [من البسيط]

دعِ الحسودَ وما يلقاهُ من كمدِهْ ... كفاكَ منهُ لهيبُ النَّارِ في كبدِهْ

إن لُمتَ ذا حسدٍ نفَّستَ كربتَهُ ... وإن سكتَّ فقد عذبتَهُ بيدِهْ

ومما يوضح ظلمه: أنه يلزمه أن يحبَّ لمحسوده ما يحب لنفسه، وهو لا يحب لها زوال نعمتها، فقد أسقط حقَّ محسوده عليه، وأن في الحسد تعبَ النفس وحزنها


(١) أخرجه البخاري (٧٣)، ومسلم (٨١٦) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه.
(٢) فالمراد بالحسد: الغبطة التي هي تمني مثل ما للغير، وليس المراد به حقيقته التي هي تمني زوال النعمة عن الغير؛ سواء تمنَّى انتقالها لنفسه أو لغيره، فإن قلتَ: ما وجه الحصر في هاتين الخصلتين مع أن كل خيرٍ مثله؟. . أجيب بأن الحصر عير مرادٍ، وإنما المراد: قابلة ما في طباع الشخص بالضدِّ؛ فإن طبع الإنسان إذا رأى غيره يجمع المال. . يحسده؛ ليكون مثله، فإذا رأى غيره يعطي أحدًا. . يذمه؛ ليكون مثله، فالطباع تحسد بجمع المال وتذم ببذله؛ أي: إعطائه، فبين الشرع عكس الطبع، فكأنه قال: لا حسد إلا فيما تذمون عليه، ولا مذمة إلا فيما تحسدون عليه. ووجه الجمع للخصلتين اللتين في الحديث: أن المال يزيد بالإنفاق ولا ينقص، قال تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، وقال صلى اللَّه عليه وسلم: "ما نقص مالٌ من صدقة"، والعلم المعبَّر عنه بالحكمة يريد أيضًا بالإنفاق منه؛ أي: بتعليمه. اهـ هامش (غ)
(٣) انظر "شرح ديوانه" للعكبري (١/ ١٨٥).

<<  <   >  >>