وأما رواية أنس وابن عباس في الصحيحين، فهي مرسلة؛ لأن هذه الحادثة حصلت بمكة قبل أن يولد ابن عباس، وأنس كان في المدينة ولم يشهدها، وأما ما انفرد به مسلم عن ابن عمر، فإن ابن عمر لم يصرح أنه رأى هذه الآية، وأما ما رواه الترمذي عن جبير بن مطعم فهو ضعيف.
ثانيا: الطعن في المتن:
إذن لم يسلم مما سبق إلا حديث ابن مسعود؛ فهو حديث متفق عليه، وقد شاهد هذه الآية بنفسه، فكان أن طعن فيه في متنه؛ فقال:
١-في بعض الروايات: انشق القمر ونحن في مكة، وفي بعضها: ونحن في منى.
٢-الروايات فيها اختلاف؛ ففيها: (رأيت القمر منشقا شقتين، شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء) ، ورواية (انشق القمر فرقتين فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه) ورواية (رأيت القمر على الجبل وقد انشق، فأبصرت الجبل بين فرجتي القمر) ورواية (فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما) ورواية (فانشق القمر نصفين، نصفا على الصفا، ونصفا المروة) .
ثم يقول: (والقاعدة المشهورة عند العلماء في الأدلة المتعارضة، التي يتعذر الجمع بينها تساقطها، ومن الدائر على ألسنتهم تعادلا فتساقطا) .
ثالثا: إشكال فلكي:
قال: لا يشك عاقل أن خلق السماوات وأجرامها في غاية الإبداع، والنظام لا تفاوت فيه ولا خلل، وأن سنته تعالى لا تتبدل ولا تتحول، فلا يصدق خبر وقوع تغير فيها إلا بخبر قطعي ثابت.
رابعا: الإشكال الأصولي الأعظم:
هكذا يصف السيد رشيد ما يورده هنا من شبهة على انشقاق القمر حيث يقول: (وثبت بالآيات المحكمة الكثيرة القطعية، الدلالة أن الكفار طالبوا النبي (صلى الله عليه وسلم) بآية من الآيات الكونية، التي أوتي مثلها الرسل على الإبهام، وأنهم اقترحوا عليه آيات معينة أيضا، فلم يجابوا إلى طلبهم، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:٥٩] وقال سبحانه: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا () أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا () أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا () أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ( [الإسراء:٩٠-٩٣] فكيف يمكننا أخذ رواية أنس في الصحيحين بالقبول، فنصدق أن المشركين طلبوا من النبي (صلى الله عليه وسلم) آية، فأراهم انشقاق القمر، وجملة القول: إنه لو صح أن قريشا سألوا النبي (صلى الله عليه وسلم) آية فأجابهم إلى طلبهم، ثم كفروا لعذبهم، ولكنه لم ينقل أن الله تعالى عذب أحدا منهم عقب ذلك التكذيب) (١) .
هذا ما قاله رشيد رضا في نفي هذه المعجزة، ولكن بقي إشكال وهو: ما الذي يقال إذن في معنى الآية (وانشق القمر) ؟ قال رشيد رضا:
(فإذا أنت راجعت لغة القرآن في معاجمها، لتفهم الآية منها دون هذه الروايات، وجدت في "لسان العرب" ما نصه: "والشق الصبح، وشق الصبح يشق شقا إذا طلع وفي الحديث (فلما شق الفجر أمرنا بإقامة الصلاة) ، يقال: شق الفجر وانشق إذا طلع ا. هـ، فعلى هذا يقال: انشق القمر بمعنى طلع وانتشر نوره، ويكون في الآية بمعنى ظهر الحق ووضح كالقمر يشق الظلام بطلوعه ليلة البدر) .
(١) مجلة المنار: المجلد ٣٠ الجزء الخامس ص:٣٦٣-٣٦٥، بتصرف.