للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم يختم حديثه في هذه المسألة بقوله: (ومن اطمأنت نفسه من المسلمين بقبول سائر تلك الروايات على علاتها، وكان ممن يرى مخالفة النقل القطعي والعقل أهون من مخالفة زيد وعمرو، وصدق عقله أن تقع هذه الآية، ولا يحدث أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من قدماء الصحابة برؤيتها والاحتجاج بها، فضلا عن تواترها، فليس له أن يجعلها من عقائد المسلمين. وينفر مستقلي الفكر ومتبعي الدليل من المسلمين وغير المسلمين منه) .

إلى هنا انتهى رشيد رضا من تقرير هذه المسألة. والذي يبدو للوهلة الأولى أن له حظا من النظر، ولكن حقيقة الأمر على الضد من ذلك، فإليك الجواب عن كل ما قال:

أولا: طعنه في السند:

١-إنكاره تواتر الحديث:

لقد نص على تواتر الحديث جهابذة هذا الفن وأمراء الحديث في القديم والحديث؛ نذكر من ذلك:

قال الإمام ابن كثير- رحمه الله -: (قد كان هذا في زمان رسول الله (، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة) (١) .

وقال الكتاني: (قال التاج ابن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب الأصلي: الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه في القرآن، مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق من حديث شعبة عن سليمان بن مهران، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، ثم قال: وله طرق أخرى شتى بحيث لا يُمترى في تواتره.

وقال القاضي عياض في الشفا -بعد ما ذكر أن كثيرا من الآيات المأثورة عنه (معلومة بالقطع - ما نصه: أما انشقاق القمر، فالقرآن نص بوقوعه، وأخبر بوجوده، ولا يعدل عن ظاهر إلا بدليل، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة، فلا يوهن عزمنا خلاف أخرق منحل عرى الدين، ولا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك في قلوب ضعفاء المؤمنين، بل نرغم بهذا أنفه، وننبذ بالعراء سخفه.

وفي أمالي الحافظ ابن حجر: أجمع المفسرون وأهل السير على وقوعه، قال: ورواه من الصحابة: عليُّ، وابن مسعود، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وغيرهم.

وقال القرطبي في المفهم: رواه العدد الكثير من الصحابة، ونقله عنهم الجم الغفير من التابعين، فمن بعدهم ا. هـ.

وفي المواهب اللدنية: جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وغيرهم.

وقال ابن عبد البر: روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، وتأيد بالآية الكريمة. وقال المناوي في شرحه لألفية السير للعراقي: تواترت بانشقاق القمر الأحاديث الحسان، كما حققه التاج السبكي وغيره.) (٢) وبنحوه قال ابن حجر (٣) .

٢-طعنه في صحة السند:

ولو سلمنا بعدم تواتره، فهو لا شك بصحته، وأما محاولة رشيد رضا تضعيف السند، فهي محاولات بائسة، ويكفي في صحته اتفاق البخاري ومسلم على تخريجه في كتابيهما عن طريق ثلاثة من الصحابة، وتصحيح الأئمة له.

وقد نقل الحافظ ابن الصلاح اتفاق الأمة على تلقي ما اتفق عليه الشيخان بالقبول والصحة، ووافقه العراقي على ذلك، ونقله عن جمع غفير من الأئمة (٤) .

وأما دعواه أن حديث أنس وابن عباس من قبيل مرسل الصحابي. فنقول ماذا في هذا؟! فمرسل الصحابي مقبول عند علماء الحديث: قال ابن الصلاح: (ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله (ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند) (٥) .

وقال الحافظ العراقي: (المحدثون وإن ذكروا مراسيل الصحابة، فإنهم لم يختلفوا في الاحتجاج بها) (٦) .

ثم لو سلمنا بعدم قبول رواية مرسل الصحابي، فقد رواه ابن مسعود مشاهدة، وهو ليس بمرسل في حقه، وكذلك رواه ورآه علي بن أبي طالب، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر (٧) .

ثانيا: طعنه في متن الحديث:


(١) تفسير القرآن العظيم (٤/٢٦١) .
(٢) نظم المتناثر في الحديث المتواتر (ص: ٢٢٢) .
(٣) في كتابه فتح الباري (٧/٢٢٢) .
(٤) انظر: مقدمة ابن الصلاح مع شرحها للعراقي (ص:٤٣) .
(٥) علوم الحديث للحافظ أبي عمرو بن الصلاح، (ص:٧٥) مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٩٩٥ وفي حاشيتها كتاب "التقييد والإيضاح لما أغلق وأطلق من مقدمة ابن الصلاح " للحافظ العراقي.
(٦) المرجع السابق (ص:٧٩) .
(٧) انظر فتح الباري (٦/٧٣٠) .

<<  <   >  >>