للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما تضعيفه حديث ابن مسعود المتفق عليه بسبب اضطراب ألفاظه، فهو في غاية من العجب.

فرواية (انشق القمر ونحن في مكة) ورواية (ونحن في منى) لا تعارض بينهما إذ منى من مكة، أو أن المراد بمكة يعني قبل الهجرة. قال ابن حجر: (وَالْجَمْعُ بَيْن قَوْل اِبْن مَسْعُود " تَارَة بِمِنى وَتَارَة بِمَكَّة " إِمَّا بِاعْتِبَارِ التَّعَدُّد إِنْ ثَبَتَ، وَإِمَّا بِالْحَمْلِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِمِنًى، وَمَنْ قَالَ: كَانَ بِمَكَّة لَا يُنَافِيه؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ بِمِنًى كَانَ بِمَكَّة مِنْ غَيْر عَكْس، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا بِمِنًى قَالَ فِيهَا: " وَنَحْنُ بِمِنًى " وَالرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا بِمَكَّة لَمْ يَقُلْ فِيهَا " وَنَحْنُ " وَإِنَّمَا قَالَ: " اِنْشَقَّ الْقَمَر بِمَكَّة " يَعْنِي أَنَّ الِانْشِقَاق كَانَ وَهُمْ بِمَكَّة قَبْل أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَة، وَبِهَذَا يَنْدَفِع دَعْوَى الدَّاوُودِيّ أَنَّ بَيْن الْخَبَرَيْنِ تَضَادًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ) (١) .

وقال: (وَقَدْ وَقَعَ عِنْد اِبْن مَرْدَوَيْهِ بَيَان الْمُرَاد فَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ: " اِنْشَقَّ الْقَمَر عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه (وَنَحْنُ بِمَكَّة قَبْل أَنْ نَصِيرَ إِلَى الْمَدِينَة " فَوَضح أَنَّ مُرَاده بِذِكْرِ مَكَّة الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْل الْهِجْرَة , وَيَجُوز أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ وَهُمْ لَيْلَتئِذٍ بِمِنًى) (٢) .

ورواية (رأيت القمر على الجبل وقد انشق، فأبصرت الجبل بين فرجتي القمر) ورواية (فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما) ، لا تعارض بينهما ألبتة، وكذا رواية (انشق القمر فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه) فإنها قريبة من معناهما.

فلم يبق إلا ما ظاهره التعارض بين هاتين الروايتين (رأيت القمر منشقا شقتين؛ شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء) ، ورواية (فانشق القمر نصفين؛ نصفا على الصفا، ونصفا المروة) .

وهذا ليس فيه إشكال؛ فإن نظر الإنسان يختلف بحسب الزاوية التي ينظر منها، فمرة يرى القمر فوق أبي قبيس، ثم إذا تحرك رآه على الصفا وهكذا، أو هو بحسب اختلاف جهة الناظرين، فبعضهم يراه من زاوية والآخرين من زواية أخرى.

وقال ابن حجر: (لَفْظِ " رَأَيْت الْقَمَر مُنْشَقًّا شُقَّتَيْنِ: شُقَّة عَلَى أَبِي قُبَيْس، وَشُقَّة عَلَى السُّوَيْدَاء " وَالسُّوَيْدَاء بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّصْغِير نَاحِيَة خَارِجَة مَكَّة عِنْدهَا جَبَل، وَقَوْل اِبْن مَسْعُود": عَلَى أَبِي قُبَيْس ". يَحْتَمِل أَنْ يَكُون رَآهُ كَذَلِكَ وَهُوَ بِمِنًى، كَأَنْ يَكُون عَلَى مَكَان مُرْتَفِع بِحَيْثُ رَأَى طَرَف جَبَل أَبِي قُبَيْس، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْقَمَر اِسْتَمَرَّ مُنْشَقًّا حَتَّى رَجَعَ اِبْن مَسْعُود مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّة، فَرَآهُ كَذَلِكَ وَفِيهِ بَعْد، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه غَالِب الرِّوَايَات أَنَّ الِانْشِقَاق كَانَ قُرْب غُرُوبه، وَيُؤَيِّد ذَلِكَ إِسْنَادهمْ الرُّؤْيَة إِلَى جِهَة الْجَبَل، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الِانْشِقَاق وَقَعَ أَوَّل طُلُوعه؛ فَإِنَّ فِي بَعْض الرِّوَايَات أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَة الْبَدْر، أَوْ التَّعْبِير بِأَبِي قُبَيْس مِنْ تَغْيِير بَعْض الرُّوَاة؛ لِأَنَّ الْغَرَض ثُبُوت رُؤْيَته مُنْشَقًّا، إِحْدَى الشِّقَتَيْنِ عَلَى جَبَل، وَالْأُخْرَى عَلَى جَبَل آخَر، وَلَا يُغَايِر ذَلِكَ قَوْل الرَّاوِي الْآخَر: رَأَيْت الْجَبَل بَيْنهمَا. أَيْ بَيْن الْفِرْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَتْ فِرْقَة عَنْ يَمِين الْجَبَل، وَفِرْقَة عَنْ يَسَاره مِثْلًا صَدَقَ أَنَّهُ بَيْنهمَا، وَأَيّ جَبَل آخَر كَانَ مِنْ جِهَة يَمِينه أَوْ يَسَاره صَدَقَ أَنَّهَا عَلَيْهِ أَيْضًا) (٣) .


(١) فتح الباري (٧/٢٢٣) .
(٢) المرجع السابق.
(٣) فتح الباري (٧/٢٢٣) .

<<  <   >  >>