للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَجُمْلَة القَوْل فِي هَذَا الْمقَام أَن ترك الْعَمَل وَالْحكم بالشريعة فِي بعض الْمسَائِل يُفْضِي إِلَى ترك بعض آخر مِنْهَا أَو يُفْضِي إِلَى جعله متعذراً إِذْ يصير مفْسدَة بعد أَن كَانَ فِي الأَصْل عين مصلحَة، ثمَّ يُؤثر ذَلِك فِي أفكار الْأمة وأخلاقها وعاداتها، حَتَّى تنْقَلب بتغيير عَظِيم فِي مقوماتها ومشخصاتها، الشَّرّ وَالْخَيْر أَو الْبَاطِل وَالْحق كل مِنْهُمَا يَقُول جنسه وَيُؤَيِّدهُ، وَقد فقدت الْأمة الإسلامية مَا يصونها من ذَلِك التدهور والهوى، وَينصب لَهَا معارج الرقي، ويستنبط لَهَا من الْأَحْكَام فِي كل زمن مَا يَلِيق بِحَالِهَا، مَبْنِيا على قَوَاعِد الشَّرِيعَة الهادية إِلَى كمالها.

ذَلِك بِأَن الاستنباط (الاشتراع) الَّذِي أُذن بِهِ لأولي الْأَمر من الْمُسلمين قد فقد بفقد جَمَاعَتهمْ، وَزَوَال الْإِمَامَة الْحق المنفذة لاستنباطهم، كَمَا علم ذَلِك من الْمسَائِل ٣، ٤، ٥، ١٧ من هَذَا الْبَحْث، وَمن بَقِي يشْتَغل بِعلم الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الإسلامية فقصارى أَمر جمهورهم مدارسة الْكتب التب ألفت للأزمنة الْمَاضِيَة الَّتِي كَانَت دَار الْإِسْلَام فِيهَا ذَات اسْتِقْلَال ومنعة، وَبَيت مَال غنى كَاف لكفالة المعوزين والغارمين وَغير ذَلِك من النَّفَقَات الشَّرْعِيَّة، فَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يفتوا بِمَا يخرج عَن قَوَاعِد مصنفي تِلْكَ الْكتب لتِلْك الْأَزْمِنَة ولحكوماتها، الَّتِي كَانَت تلتزم الْعَمَل بهَا، بل قرروا فِيمَا وضعوه من الشُّرُوط للإفتاء أَن يلتزموا فروع كتب مُعينَة لَا يتعدونها، لِأَن تعديها ضرب من الِاجْتِهَاد وَلَو فِي الْمَذْهَب، وَقد قرروا مَنعه كالاجتهاد الْمُطلق. ومنتهى مَا يرجي من توسعتهم على الْحُكُومَة الَّتِي تُرِيدُ الْعَمَل بِأَحْكَام الشَّرِيعَة أَن يستخرجوا لَهَا بعض الْفُرُوع الْمُوَافقَة للْمصْلحَة الْعَامَّة فِي هَذَا الزَّمَان من كتب الْمذَاهب الْمُعْتَمدَة، فَإِن الَّذين حرمُوا عَلَيْهِم الِاجْتِهَاد والاستنباط من أصُول الشَّرِيعَة والاقتباس من مصباحها مُبَاشرَة قد أوجبوا عَلَيْهِم تَقْلِيد مَذَاهِب مُعينَة. كَمَا قَالَ صَاحب جَوْهَرَة التَّوْحِيد: " فَوَاجِب تَقْلِيد حبر مِنْهُم ". يَعْنِي الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين فِي الفقة، فاعتمدوا هَذَا التَّحْرِيم والتحليل مِمَّن لَيْسَ بأَهْله. وَإِنَّمَا أباحوا تَقْلِيد غير الْأَرْبَعَة من الْمُجْتَهدين للْعَالم بذلك فِي خَاصَّة نَفسه. دون الْإِفْتَاء بِهِ لغيره، كَمَا قَالَ بَعضهم:

(وَجَائِز تَقْلِيد غير الْأَرْبَعَة ... فِي غير إِفْتَاء وَفِي هَذَا سَعَة)

<<  <   >  >>