-حرف- منها بوظيفة معينة في نظام صوتي؛ لأنه إذا بدا يفعل ذلك فقد تخطَّى علم الأصوات إلى علم الصوتيات, ولكنه يستطيع أن يضع جدولًا للأصوات بحسب مخارجها وصفاتها دون أن يقسمها إلى حروف, أو أن يضع أيّ واحد منه موضعًا تنظيميًّا خاصًّا خارج إطار الملاحظة الخالصة. حتى الجدول الذي وضعه للأصوات لا يعتبر محاولة للتنظيم اللغوي -لأنه كما ذكرنا لا يعرف اللغة- وإنما يعتبر تلخيصًا لعلاقات بين مدركات حسية صوتية تظل تنتظر من يبوبها ويقسمها ويجعل كل قسم منها حرفًا من حروف النظام الصوتي للغة, أو بعبارة أخرى: تنتظر من يرتِّبها في جدول تنظيمي يحكي ما يربطها من علاقات عضوية, أو يفرق بينها من قيم خلافية؛ إذ لا يمكن للأصوات أن تعتبر جزءًا من اللغة إلّا من خلال هذ العلاقات والمقابلات. ومن هنا يتحتّم على من يتصدى لتنظيم الأصوات وتقسيمها إلى حروف أن يكون على قدر من المعرفة باللغة في عمومها أو بمفرداتها على الأقل, وسوف يبدو لنا السبب في اشتراط هذا القدر من المعرفة عند الكلام عن طريقة استنباط هذا النظام الصوتي من المادة الحاضرة, وهي الأصوات المدرَكَة الموصوفة؛ حيث يتمّ الاستنباط بواسطة الاستبدال والحذف والإضافة على نحو ما سنرى.
فإذا كان الأمر كذلك, فكيف كان موقف النحاة العرب من دراسة الأصوات العربية؟
لست أشك لحظة واحدة في أنّ هؤلاء العلماء الأجلاء قد استطاعوا بالملاحظة فقط -ومعها كل الصعوبات التي تواجه الطليعة في العادة- أن يصلوا إلى وصف دقيق للأصوات العربية دون أن يكون لهم من الوسائل الآلية التي يستخدمها المحدثون ما يستطيعون بواسطته توثيق نتائج مدركاتهم الحسية, ولقد بينوا مخارج الأصوات وصفاتها, واشتمل ذلك عند الكثيرين منهم على أصوات غير عربية شاعت في البيئة العربية في القرن الثاني الهجري, وقد سمَّى سيبويه بعض هذه الأصوات الأجنبية وشبهها أصواتًا عربية مشهورة, ووصف ذلك بأنه "غير مستحسن ولا كثير في لغة من ترضى عربيته, ولا يستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر١".