للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بفضله تكتسب تلك المظاهر دلالتها. وفي الهيومر نوع من الخفر والتحفظ وتمالك النفس لا يعرفه الهزل الصريح" ثم إن "اليهومر استعداد طبيعي في نفس صادقة لا تصدف عن أن تعرف كل ما ترى وأن تقول كل ما ترى وأن تقول كل ما تعرف" أي: إنه -على حد قول ديهامل- "حيلة نفسية نتخذها للعبارة عن كل ما نريد أن نعبر عنه في خفر وتحفط"، وتلك صفة من صفات أبي العلاء البارزة.

وأما السخرية والتهكم فالفرق بينهما مرده إلى طبائع النفوس، فمن الناس من يسخر من آلامه ليهون حملها عليه، فهي حالة نفسية هادئة أميل إلى الطبع الفلسفي منها إلى طبع الشعراء، وأما التهكم فيصدر عن النفوس العنيفة التي لا ترحم حمق الغير أو جهله فتتهكم منه، فالسخرية أغلب ما تكون من النفس وإليها وإن امتدت إلى الغير ففي رفق، بينما التهكم سلاح قوي ضد الآخرين.

وكل هذه طرق مختلفة للعبارة عن مكنون نفوسنا، الذي لا نريد العبارة عنه عبارة مباشرة. فمن الكُتاب أمثال موليير من يضحك من الناس ليقوم من اعوجاجهم، ومنهم أمثال شارلي شابلن ممن يضحكنا ليثير شجوننا، ورفقنا بضعفاء الناس، ثم تورثنا على الظالمين منهم، وهناك من أمثال فيجارو الذي يضحك انتقاما لنفسه وخوفا من أن يبكي من محنه، ومنهم من ضحكه نقد اجتماعي مر لظواهر لا يعرف لها علاجا، ومن هذا النوع ضحك ربليه Rabelais.

ومن الواضح أن ما نسميه سخرية أبي العلاء ليست شيئا من كل هذا، وإنما هي عبث يأس، عبث رجل استوى عنده كل شيء؛ لأنه لا يؤمن بغير ألمه، بل ولا يستطيع بطبعه أن يعبر عن هذا الألم إلا في خفر وحياء.

وهكذا يتضح أمامنا الآن بعض الوضوح، أن ما في نفسية أبي العلاء مما يسميه نقادنا تشاؤما وسخرية ونسميه ثورة وعبثا مردهما إلى ما ابتلي به من محنة نزلت فلاقت مزاجا خاصا أنتج ما بين أيدينا من أدبه، ولنصور تلك النفسية كما نفهمها:

يخيل إلي مفتاح فهمنا لنفسية أبي العلاء ليس في شعره ولا في "الفصول والغايات"؛ وإنما هو في رسائله لداعي الدعاة؛ حيث يناقش مشكلة الخير والشر، وإرادة الله لهذا الشر أو عدم إرادته. ومن الواضح أنه لم يحرك هذه المشكلة في نفسه غير محنة عماه، ولقد عنت مشكلة الشر ومصدره، وإمكان الإفلات منه أو عدم الإمكان أبا العلاء طوال حياته، ولقد انتهى به الأمر إلى اليأس من الفهم؛ ولهذا غلب عليه التفكير الأخلاقي أكثر من التفكير العقلي، ولقد انتهى إلى الشك

<<  <   >  >>