للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في كل شيء والاعتقاد بإمكان كل شيء عقليا؛ ليأسه من كل شيء وثقته من عدم إمكان أي شيء عمليا. إنه لم يستطع أن يدرك لمحنته حكمة. لِمَ لم يخلق أو يترك بصيرا كغيره؟ ثم من أراد به هذا الشر؟ أهو الله الذي هو سبحانه خير مطلق؟ ثم أما لهذه المحنة من نهاية؟

عللاني فإن بيض الأماني ... فنيت والظلام ليس بفاني

فأي غرابة أن تساوره الشكوك في كل شيء، حتى في الله والأديان، بل في ذلك العقل نفسه الذي عجز أن يحل مشكلة الشر فيحمل إلى نفسه الرضا بما قسم له، وعنده أن العقل أداة هدم لا يقين؟

إذا رجع اللبيب إلى حجاه ... تهاون بالمذاهب وازدراها

فخذ منها بما أداه لب ... ولا يغمسك جهل في صراها

وهت أديانهم من كل وجه ... فهل عقل يشد به عراها

ثم قوله:

ثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر دين لا عقل له

وإذا كان قد ركن إلى يقين في حياته، فهو لا ريب لم يكن يقين عقل بل يقين حس.

وقال أناس ما لأمر حقيقة ... فهل أثبتوا أن لا شقاء ولا نعمى

وشكل في الإيجاب والنفي معشر ... حيارى جرت خيل الضلال بهم سعيا

فنحن وهم في مزعم وتشاجر ... ويعلم رب الناس أكذبنا زعما

إيمانه إذن إيمان بالشقاء والنعمى، شقاؤه هو ونعمى الغير، وذلك لا ريب إيمان سلبي خليق بأن يحطم النفس لا أن يقودها إلى اليقين، ومتى ولد الألم الإيمان؟ والألم سخط وحيرة وتبلبل وضجر، بينما الإيمان اطمئنان وسكون ورضا وأمان، حتى لتكاد تحس بين الأمرين تناقضا تاما.

يئس أبو العلاء من كل يقين. فاعتزل الحياة والناس رهينا لمحبسيه أو لمحابسه الثلاثة.

وبذلك أسدل ستار عليه في حياته العملية. ولكن بقيت حياته الروحية تعمل ما لم يستطع تحقيقه فعلا من معالجة الحياة والضرب فيها، واتخذ نشاطه العلمي ذلك اللون من العبث الذي جاءت رسالة الغفران أحد مظاهره.

<<  <   >  >>