للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الممكن أن أكون بصيرا كسواي؟ وطغت الممكنات على تفكيره، فانتهت به إلى ذلك الاستهتار العقلي الذي يفسر الكثير من متناقضاته، كما نجده في أساس ذلك العبث الذي يطالعنا في رسالته.

والذي لا شك فيه أن طول الإحساس بالألم والعجز عن الخلاص منه أو التسليم بحكمته خليق بأن يقود إلى نوع من اليأس العقلي يردد كل رأي ولا يؤمن بأي رأي، وقد أمحت قيود الواقع التي تحكم تفكيرنا وتقضي فيه بالصحة أو البطلان، وهذا ضرب عنيف من الثورة العقلية، كم سيق إليه رجال ممن يعجزون عن تغيير الواقع فيرفضونه، وكأن لا وجود له، وقد ذهب إيمانهم بكل شيء وبكل أحد؛ لأن قوة إحساسهم بالألم لا تدع في نفوسهم فراغا لغيره.

لم يستطع أبو العلاء أن يرضى بالواقع، فرفضه في ثورة عنيفة لم تجتح واقعه فهو فحسب، بل اجتاحت كل واقع، وضرب بعلقه الجريح في عالم الممكنات، وقد أرهف الألم تفكيره، فإذا به عابث، والعبث أكبر مظاهر حساسية العقول.

ألا تذكر قوله في "الفصول والغايات": "يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه ويسمع الأصوات بيده وتكون بنانه مجاري دمعه ويجد الطعام بأذنه ويشم الروائح بمنكبه ويمشي إلى الغرض على هامته"، وكأني بنجوى نفسه تهمس: "وإن صح ذلك فلِمَ لم يتركني بصيرا؟ " و"فنيت بنفسه، بيض الأماني، والظلام ليس بفانٍ"، فتزعزع إيمانه بكل ممكن؛ وكيف يؤمن والواقع يثقله؟ وإذا عزت الممكنات أحالها ألم الواقع ضربا من العبث نجد فيه عيدا من أعياد الذكاء ننتقم به من كل المحن.

وفي جنة أبي العلاء من هذه الممكنات أنواع في تصورها نفسه أكبر ثورة على حقائق الإيمان. فيكف بها وقد أحالتها روح العبث نسبا تتقابل فتفتر لها الشفاه. فهذا أعشى قيس وقد أصبح "شابا غرانقا وصار عشاه حورا، وانحناء ظهره قواما"، وهؤلاء عوران قيس الخمسة "لم ير ابن القارح أحسن من عيونهم في أهل الجنان"، وهذا زهير الشيخ الفاني "شاب كالزهرة الجنية كأنه ما لبس جلباب هرم ولا تأفف من البرم" بل إن الجارية توفيق السوداء لتستبدل بسوادها بياضا أنصع من الكافور.

ومن عجب أن يصير الناس إلى هذا التغيير في جنة دخلها أسد القاصدة لافتراسه عيينة بن أبي لهب، كما دخلتها حية رضابها أصبح أفضل من الدرياق؛ لأنها حفظت القرآن؛ إذ سكنت في دنيانا دار الحسن البصري وطال استماعها

<<  <   >  >>