للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تلاوته للكتاب، بل دخلها "أخنس ذيال؛ لأنه كان يروض في بعض القفار فمر به ركب مؤمنون قد كرى١ زادهم فصرعوه واستعانوا به على السفر، فعوضه الله بأن أسكنه في الخلود"، ثم "علج وحشي ما التلف عنده بمخشى، إذا صاده صائده بمخلب وكان إهابه له كالسلب، فباعه في بعض الأمصار، فاتخذ منه غرب٢ شفى بمائه الكرب، وتطهر بنزيعه الصالحون فشملته بركة من أولئك، فدخل الجنة يرزق فيها بغير حساب".

وليست تلك جنة القرآن التي يعاود المؤمنون فيها شبابهم وجمال أجسامهم و {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} ، وإنما هي ممكنات يعبث بها عقل أبي العلاء المضني، وقد أتاحت النهز لذلك البعث ذكريات الأدب بل تداعي الألفاظ، كحور الأعشى وبياض السوداء وما إلى ذلك مما لا حصر له في كل ما كتب المعري.

وفي الحق إن جنة أبي العلاء مثلها كلها مثل الحور العين التي حدث عنها أحد الملائكة ابن القارح قائلا: "إنها على ضرب خلقه الله في الجنة لم يعرف غيرها، وضرب نقله من الدار العاجلة لما عمل من الأعمال الصالحة". فهي مزيج عجيب من ماضي العرب وجنة الخلد، وفي ذلك الماضي، كما في حقائق الجنة ما يمكن أبا العلاء من أنواع من الممكنات، في نسبها وقلبها للأوضاع -بما يحوط ذلك من منحى الدراما وواقعية الحديث- ما يمكن لروحه العابثة. فلقد نرى فيها أحمد بن يحيى وقد غسل قلبه من الحقد على محمد بن يزيد فصارا يتصحافحان ويتوافيان، وسيبويه وقد رخصت سويداء قلبه من الضغن على عليِّ بن حمزة الكسائي وأصحابه لما فعلوا به في مجلس البرامكة، فهم كما جاء في الكتاب العزيز: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} بينما نرى النابغة الجعدي والأعشى يتشاجران، كما يتشاجر الشعراء، وتبلغ الخصومة بهم حد الإقذاع وكأنما قد "نزفوا٣ فيصيح الجعدي بالأعشى: اسكت يا ضل بن ضل، فأقسم أن دخولك الجنة من المنكرات، ولكن الأقضية جرت كما شاء الله. لحقك أن تكون في الدرك الأسفل من النار، ولقد صلى بها من هو خير منك، ولو جاز الغلط على رب العزة لقلت: إنك قد غلط بك".

وهكذا يتصافى من احتدمت بينهم الخصومة بدنيانا، بينما يتقابل من لم يرد عنهما اقتتال. وهكذا دأب أبي العلاء المتصل، حتى لتراه يصرف عدي بن زيد إلى ما ألف في دنياه من قنص، رغم ما في الجنة من متع وخيرات {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ


١ نفد.
٢ دلو.
٣ من قوله تعالى: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} أي: يحنون.

<<  <   >  >>