للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نتدبرها. يقول ابن سلام: "قال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك"، فقال له: "إذا أخذت أنت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟ "، وإذن فلكي يصح النقد الذوقي لا بد له من دربة، وفي هذا يقول ابن سلام أيضا: "للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه العين ومنها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصروه ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراز ولا حس ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيبعرف زائفها وستوقها ومفرغها ... إلخ".

ويضيف ذلك الناقد العربي الكبير هذه الحقيقة الرائعة: "إن كثرة المدراسة لتعدي على العلم"، وهذا الكلام الذي قاله ابن سلام منذ قرون هو آخر ما انتهى إليه الأوربيون في حقيقة النقد الأدبي، ولنستمع إلى لانسون Lanson عميد النقد الموضوعي في فرنسا المعاصرة: "إذا كان النص الأدبي يختلف عن الوثيقة التاريخية بما يثير لدينا من استجابات فنية وعاطفية، فإنه يكون من الغرابة والتناقض أن ندل على هذا الفارق في تعريف الأدب ثم لا نحسب له حسابا في المنهج، لن نعرف قط النبيذ بتحليله تحليلا كيماويا أو بتقرير الخبراء دون أن نذوقه بأنفسنا، وكذلك الأمر في الأدب، فلا يمكن أن يجل شيء محل "التذوق"، وإذا كان من النافع لمؤرخ الفن أن يقف أمام "يوم الحساب"، أو حلقة الليل"١، ولم يكن ثمة وصف في قائمة أو تحليل فني يستطيع أن يحل محل إحساس العين، فذلك نحن لا نستطيع أن نتطلع إلى تعريف أو تقدير صفات مؤلف أدبي أو قوته ما لم نعرض أنفسنا أولا لتأثيره تعريضا مباشرا "تعريضا ساذجا" أليس هذا ما قاله ابن سلام؟

ولقد عاد الآمدي أكبر نقاد العرب وأصدقهم ذوقا إلى تنمية هذه الحقائق في "الموازنة"، وفيها يوضح كيف أنه سيعلل أحكامه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ثم يرشدنا إلى أنه سيبقى "ما لم يمكن إخراجه إلى التبيان ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علة ما لا يعرف إلا بالدربة ودائم التجربة وطول الملابسة، وبهذا يفضل أهل الحذاقة بكل علم وصناعة من سواهم ممن نقصت قريحته وقلت دربته"، وهو يحكي عن إسحاق الموصلي أن المعتصم سأله يوما: "أخبرين عن معرفة النغم وبينها" فأجاب إسحاق: "إن من الأشياء أشياء تحيط


١ لوحتان زيتيتان.

<<  <   >  >>