للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بها المعرفة ولا تؤديها الصفة"، وفي الأدب أشياء كثيرة، شأنها شأن النغم يحيط بها الذوق ولا تؤديها الصفة، ويضيف هذا الناقد الكبير: "ليس في وسع كل واحد أن يجعلك أيها السائل المتعنت والمسترشد المتعلم في العلم بصناعته كنفسه، ولا يجد إلى قذف ذلك في نفسك ولا في نفس ولده ومن أخص الناس به سبيلا، ولا يأتيك بعلة قاطعة ولاحجة باهرة".

وهنا قد يعترض المعترضون بأن هذا الكلام يفتح الأبواب للتحكم والأذواق متباينة، وما إلى ذلك من الكلام الطويل الذي نعرفه جميعا، وقد لاكه علماء الجمال والنفس حتى مللناه، ولقد يضيفون، وهذا يتنافى مع الروح العلمية التي يجب أن تسود أبحاثنا اليوم. وأنا أترك لكبير الدعاة إلى المذهب العلمي الموضوعي في النقد مهمة الرد، قال لانسون: "إذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا لموضوع دراستنا لكي ننظم وسائل المعرفة لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته، فإننا نكون أكثر تمشيا مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثرية impressionisme في دراستنا وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها؛ وذلك لأنه لما كان إنكار الحقيقة الواقعة لا يمحوها، فإن هذا العنصر الشخصي الذي نحاول تنحيته سيتسلل في خبث إلى أعمالنا ويعمل غير خاضع لقاعدة، وما دامت التأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، فلنستخدمه في ذلك صراحة؛ ولكن لنقصره على ذلك في حزم، ولنعرف -مع احتفاظنا به-كيف نميزه ونراجعه ونجده، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه، ومرجع الكل هو عدم الخلط بين المعرفة والإحساس واصطناع الحذر حتى يصبح الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة".

وهذا كلام صادق عميق، فالذوق الذي نقول به ليس ذلك الذوق النظري الذي يتحدث عنه الفلاسفة، وإنما هو الذوق الأدبي، ذلك الذي يرى أن أبا تمام عندما يصف امرأة "بأنها ملطومة الخدين بالورد" قد أتى كما يقول الآمدي "بالحمق أجمعه"، والذوق خير وسائل المعرفة على أن يكون ذوقا مدربا، وأن نأخذه بالمناقشة والتعليل، حتى بعد أن يتم تثقيفه، ولكم من مرة يصدق الذوق وبطل التعليل، وهذا عند الآمدي كثير الحدوث. ولكم من مرة يستقيم التعليل ثم يخطئ الذوق، كما نرى عند ابن قتيبة. ومع ذلك فالذوق الذي يعتد به هو الذوق المعلل في حدود الممكن، وإن كان ثمة أشياء "لا تؤديها الصفة".

واعتراض آخر قد يراه البعض، وهو ينظر فيرى أن الإنسانية قد تقدمت، وأن

<<  <   >  >>