للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بفرض إمكان ذلك. وفي الحق أن التصغير لا يفيد التحقير والتعظيم والتلميح وما إليها فحسب، بل يفيد ألوانا لا حصر لها من العواطف، وأنه لمن الخطأ أن نأتي بتفكيرنا الهندسي فنعمم على غير احتياط. ونحن لسوء الحظ لم نعد نحس اللغة العربية الفصحى، وهذا يقودنا إلى أخطاء كثيرة لا يمكن أن يعصمنا منها نحو ولا بلاغة، ولنفكر جميعا في الإحساسات المختلفة التي يثيرها في أنفسنا تصغيرنا العامي في قولنا مثلا: "حتة ولد" و"حتة نتفة ولد"، ولنتصور الملابسات العديدة التي يقول فيها شعبنا أمثال تلك الجمل، لندرك المفارقات الدقيقة التي أشرت إليها، هناك وسائل كثيرة تحتال بها اللغات على تلوين أفكارنا ذلك التلوين الذي لا تحمله ولا يمكن أن تحمله مفردات اللغة، وإنما نلحقه بها بفضل التنغيم في الكلام، وبحيل بلاغية في الكتابة، والتصغير إحدى تلك الحيل، ذلك ما يحدثني به المنهج الفقهي، وأما منهج العلم النفسي فيرى أن تصغير المتنبي كان لتكبره!

هذه الأمثلة أسوقها للتدليل على النتائج البعيدة التي تترتب على استخدام مناهج العلوم الأخرى، أو مبادئها في دراسة الأدب. الأدب فن لغوي كما قلت، فمنهجهه هو المنهج الفقهي الفني كما فهمه عبد القاهر الجرجاني وطبقه في "دلائل الإعجاز". والآن ما هو ذلك المنهج؟

منهج عبد القاهر يستند إلى نظرية في اللغة، أرى فيها -ويرى معي كل من يمعن النظر- أنها تماشي ما وصل إليه علم اللسان الحديث من آراء، ونقطة البدء نجدها في آخر "دلائل الإعجاز"؛ حيث يقرر المؤلف ما يقرره علماء اليوم من أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات "Systeme des reapports".

على هذا الأساس العام بنَى عبد القاهر كل تفكيره اللغوي الفني، قال: "إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينهما فوائد، وهذا علم شريف وأصل عظيم، والديل على ذلك أن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها؛ لأدي ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لنعرفها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها، فلا نعقل نفيا ولا نهيا ولا استفهاما ولا استثناء، وكيف والمواضعة لا تكون ولا تتصور إلا على معلوم، فحمال أن يوضع اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت: خذ ذاك، لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار

<<  <   >  >>