للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رجلا معتزا بنفسه، وهو قد لاحظ أن المتنبي يكثر من استعمال التصغير، فما عليه إلا أن يقيم علاقة نفسية بن الظاهرتين فيعلل تصغير المتنبي بتكبره، وهذا أيضا من طغيان النفسيات على الأدب، والنفسيات في ذاتها ليست شرا، وإنما الشر يأتي من طريقة استخدامها وبخاصة في عصرنا الحالي، حيث يريد أصحابها أن يعطوها صفة العلم بما يستتبع ذلك من تعميم قوانين لا يمكن أن تنطبق على الأدب، الذي هو -كما قلت وسأقول دائما- مفارقات دقيقة تحتاج في إدراكها إلى ما يسميه بسكال "Pascal" لطافة الحس "esprit de finbesse" أكثر من احتياجها إلى التفكير الهندسي "esprit de geometrie".

ولننظر عن قرب في رأي الأستاذ العقاد؛ وذلك لأنه يبدو لأول وهلة ظاهرة الوجاهة، والمتنبي لا نزاع في أنه متكبر، كما لا نزاع في أنه قد هجا "الشويعر" و"كويفير" و"الخويدم" و"الأحيمق" بل "وأهيل عصره". والتصغير في رأي النحاة كثيرا ما يكون للتحقير، وإذن فالمتنبي يريد بالتصغير أن يحقر خصومه، وهو يحقرهم لأنه متكبر؛ وهنا يتسلل الخطأ إلى التفكير النفساني؛ وذلك لأني لا أظن أن التصغير في شعر المتنبي كان لتكبره، وإنما هو أداة من أدوات الهجاء يعرفها كافة شعراء هذا الفن في الأدب العربي وفي غيره من الآداب. أداة لصيقة بفن أدبي بذاته لا وليدة لطبيعة نفسية عند من يستخدمها، وليست هناك رابطة تلازم بين التكبر والتصغير، حتى ولا في شعر المتنبي نفسه، وهو قد استخدمه للتعظيم، قال:

أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتنادي

ومعنى الشطر الأول أن الليلة كانت طويلة حتى خيل للشاعر أنها لم تكن ليلة واحدة بل سبعا، وإذا كان هذا طولها فكيف يصغرها فيقول: "لييلتنا"؟ ولقد سئل المتنبي نفسه في ذلك "الوساطة - طبعة صبيح ص٣٣٩": هذا تصغير التعظيم، والعرب تفعله كثيرا، قال لبيد:

وكل أناس سوف تدخل بينهم ... ودويهية تصفر منها الأنامل

أراد لطف مدخلها فصغرها، وقال الأنصاري: أنا عذيقها المرجب وجذيلها المحكك، فصغر وهو يريد التعظيم، وقال آخر:

يا سلم أسقاك البريق الوامض ... والديم الغادية الفضفاض

وإذن فالمتنبي قد استخدم التصغير في غير التحقير، بل استخدمه في ضده. ومن هذا نرى أن العلاقة بين التكبر والتصغير غير مطردة حتى يستقيم التفسير

<<  <   >  >>