للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الناس، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص؛ ولذلك ترى من يموت من الحر ومن يموت من الضحك من الحر" "فيض الخاطر ج١ ص٣٤٢، ٣٤٣".

تقرأ هذا الأسطر لأحمد أمين فتخرج منها بفكرة "أن الألم واللذة أمران نسبيان، وأنهما نتيجة لتفاعل بين النفس وما يحيط بها".

ثم تنظر فإذا الكاتب يعرض لك نفس الفكرة بعدة طرق، ويحتال على نقلها إليك بكافة أوجهها فتهم بأن تصيح: وما عملي أنا إذن؟ ولم لا يترك لي حظ تنمية فكرته فأشاركه عمله وأجد من لذة الجهد الشخصي ما يغريني بقراءته؟ لم لا يترك فكرته مركزة فتحتفظ بقدرتها على الإيحاء؟ إننا لا نريد "الفكة" بل نريد "جنيهات صحيحة". وفي هذه التشبيه على ابتذاله ما يوضح حقيقة هذا الأسلوب، فالجمل بسيطة صغيرة ليس فيها من التماسك والتداخل ما يجري في التفكير، وفي العبارة ذلك "السيل الموسيقي" الذي يميز بين الأساليب تبعا لطبيعته، أسلوب يترك القارئ في موقف سلبي؛ لأن الكاتب لم يترك له شيئا، أسلوب جزئيات لا موج فيه، أسلوب واضح، ونحن في حاجة إلى ظلال وأسرار ولو من حين إلى حين، أسلوب تجاور لا بناء، أسلوب تعليمي.

ثم أسلوب الزيات: "نشأ بين لداتة من أطفال القرية، كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام، فكان لا ينفك ضاربا هذا بعصا أو قاذفا ذاك بحجر، أو خاطفا لعبة من بنت أو سارقا شيئا من بيت! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجار والمجان. فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم" "الرسالة ٤٦٤".

شيء أشبه ما يكون بأسلوب "المقامات"، وأنا لا أكره المقامات بل أعدها كنزا ثمينا في ترثانا الأدبي لم نعرف بعد كيف نتذوقه، ولكن الزيات لم يقصد إلى كتابة "مقامة" بل مقالة يصور فيها رجلا لقيه فعلا في الحياة، فما هذه الصنعة التي تخرج التصوير من الواقع الحي إلى الأدب المصنوع؟ ومن منا يقرأ جملا كهذه ثم يتصور أو يصل إلى أن يتوهم أن هذا الرجل موجود؟ ولو أن ذلك كان ممكنا لما سأل القراء الزيات عن حقيقة ذلك الرجل، كما رأيناهم يفعلون على صفحات "الرسالة"، وأين هذا من الأسلوب القصصي أو التصويري الذي يجعلك تتوهم الخيال حقيقة أراد المؤلف أم لم يرد؟ ولكم من ورائي قاضاه الناس؛ لأنهم رأوا أنفسهم فيما صور! ولكم من ورائي يصر قراؤه على أنه هو نفسه بطل روايته رغم احتياله عى الواقع وحرصه على تعميته! بل إن من الروائيين الخياليين من يحتال بعدة طرق حتى يعطيك ما

<<  <   >  >>