للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يسمونه بالفرنسية "وهم الحقيقة" L'illusion du reel فما بال الزيات إذن يأبَى إلا أن يفسد بالصنعة نغمات الواقع؟ ثم لم كل هذه "السمترية"؟ وفيمَ اصطناع "البرجل والمسطرة"؟ ومتى كان الأسلوب هندسة من هذا النوع التخطيطي؟ أما من نزوة الشيطان الأدب تكسر هذا الاتساق؟ أما من نفضة قلم تتلف قليلا من هذا الكمال المضني: "زنبور بين النحل أو ثعبان بين الحمام"، "ضاربا هذا بعصا قاذفا ذاك بحجر"، "خاطفا لعبة من بنت أو سارقا شيئا من بيت"، "في خدمة الفجار والمجان، يخدم أولئك بتدبير الجرائم وهؤلاء في إعداد الولائم"، يا لله! ولِمَ لا يخطف لعبة من ولد وهو مجرم كبير؟ ولم لا يسرق من حقل وذلك أيسر من السرقة من بيت؟ وهل هو حقيقة لم يخطف إلا من بنت؟ ولم لا يسرق إلا من بيت؟ أم هو مجرد أدب وصناعة؟ وهو يخدم المجرمين بتدبير الجرائم، ولكن لم لا يخدم المجان بإعداد المقاصف؟! وهل الوليمة أشهى من المقصف أم هي ضرورة السجع؟

أسلوب الزيات المصنوع صنعة محكمة، صنعة كاملة؛ ولكن الصنعة تبعدنا عن الحياة. ولكن الكمال يمل. وهناك في أساليب كبار الكتاب ما يحسبه البلاغيون والنحويون ضعفا وعيبا، ولكنه أمارة الأصالة ودليل الطبع. وإذا كان في جلال أسلوب "شكسبير" أو "فليري" ما يسمونه كسر البناء Rupture de Syntaxe، فكيف لا يطمئن جهد الزيات حتى يقيم الموازين ويقيس المسافات؟!

وبعد فهذه كلها وغيرها أنواع من الأساليب، وأنا وإن كنت أعتقد أن أيا منها لم يبلغ بعدما نرجوه في لغتنا من خلق أساليب تجمع بين الموسيقى والإيحاء والطبيعة، على أن تكون الموسيقى خفيفة دفينة عميقة لا تُحاكى، وأن يكون الإيحاء عن غنى وتركيز لا عن غموض وعجز عن تملك الفكرة، وأن تكون الطبيعية نتيجة لجهد طويل وصناعة مستترة وتثقيف محكم، كالضوء الداخلي يشع دون أن يعشى الأبصار، أو كالرجل اللبق، يعرف كيف يلقي الناس ويحييهم ويحادثهم في يسر، طال إلفه له حتى أصبح كالطبع المفطور -أقول: إنني رغم ذلك مغتبط بوجود هذه الأساليب المختلفة، مؤمن بأن أصحابها قد ساهموا وسيساهمون في تربية أذواق الناشئين ليحققوا ما يمكن أن يكون جيلهم قد عجز عنه، وما قد يعجز عنه جيلنا نحن أيضا؛ لأننا لا نزال حديثي عهد بفن الأساليب، ولا بد لنا من أن نتتلمذ في ذلك زمنا ما لكبار كتاب أوربا الذين لم نأخذ عنهم -كما قلت- سوى التفكير.

وأما الأسلوب الذي لا أستطيع أن أقبله والذي أرجو أن نحيد عنه فهو الأسلوب

<<  <   >  >>