للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذلك مع تحفظات أبدأ بها لأخلص بعد ذلك إلى قيمة هذا الكتاب الخطيرة. وأولها ما ألاحظ من رهبة الحكيم للحياة، وانطوائه على نفسه، وهو رجل داخلي "لم يتح لي لحظة من لحظات حياتي أن أحزن لحزن الطبيعة، وأبتسم لابتسامها؛ وذلك لأن ما عندي من أزمات داخلية قد شغل قلبي دائما عن الطبيعة، إن عيني مصوبتان دائما إلى أعماق قلبي".

وهذا في الحق ليس إلا جانبا من ظاهرة عامة عند الحكيم، فمن البين أن في نفسه شهوة مسيطرة، هي شهوة الفن، وهذه الشهوة هي مصدر ما يجد من قلق وشك وآلام، ولقد اتفق أن ألقى بنفسه إلى أوربا، وهو المرن التفكير، المفتح النوافذ السلس القياد، السريع التأثر، الوديع المزاج، فإذا بآيات الفنون والآداب تملك عليه أمره ملكا تاما فلا يعود يرى غيرها، وكان في هذا موضع الخطر، فإن المعرفة غير المباشرة من كتب ومحاضرات ومتاحف لم تلبث أن طغت في نفسه على المعرفة المباشرة، فهو يحدثنا أنه كان يفضل البقاء في باريس مكبا على القراءة والتحصيل على أن يصاحب إخوانه المصريين إلى شاطئ بحر أو قمة جبل. وهو يحلل سر أعراضه عن "ساشا" وغيرها -فيما أظن- من فتيات باستغراقه في تغذية نفسه بألوان الفنون. وهكذا تولدت في قلبه رهبة من الحياة التي أصبح يخشى أن تصرفه عن هدفه، فصدف عنه وسائل المعرفة المباشرة من مغامرة في المجتمع، وسياحة في بقاع الأرض، وتقليب البصر في مناظر الجمال والقبح التي نستطيع أن نلاحظها بكل مكان، إذا استطعنا أن ننتزع أنفسنا من انطوائها الداخلي لنشرها في الخارج، على أن نستردها بعد ذلك، أوفر غنى وأرهف نفاذا، ولقد كنا نفهم عندئذ أن يتجه الحكيم اتجاها روحيا صوفيا خالصا، ولكنه لم يفعل؛ وذلك لأن معدن نفسه فيما يبدو لم يخلق للتصوف.

الحكيم مفكر، مفكر في الحياة: حياته وحياتنا، ولكن تفكيره لم ينهض على الملاحظة المباشرة، قارن بينه وبين بلزاك مثلا، تدرك الفرق الواضح لساعتك: بلزاك يفكر بحواسه، أما الحكيم فبعقله، ولا أدل على ذلك من أن تراه يعالج كبرى المسائل الإنسانية علاج من لم تمسه عن قرب استمع إليه يقول عن الحب، هذا اللفظ الخطير الذي لن يبليه ابتذال؛ لأنه جوهر الحياة -جوهر الشباب على الأقل: "يخيل إليَّ أن الحب في هذا العالم عضو سوف يتمكن العلم الحديث من بتره واستئصاله دون أن تخسر الإنسانية شيئا كبيرًا". وفي موضع آخر: "وإنك لنعرف أن للحب مقاما كبيرا عندي في الحياة، في كل حياة، وربما كان الحب هو الشيء الوحيد الجميل الذي نعيش به ومن أجله نحن البشر". ما سر هذا التناقض؟ أو ما

<<  <   >  >>