للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تراه في صدور الرأيين عن العقل؟ أما لحياة فتسخر من كل ذلك. فالحياة لا تعرف الفروض العقلية ومهارة التفكير، الحياة سيل ذو اتجاه واحد١.

هذا المنحى العقلي هو ما سبق أن أوضحته في نقدي لبجماليون، وإنه لمما يشجيني من توفيق الحكيم أن روحه المدركة قد رأت ما رأيت وعبرت عنه في قوة ووضوح "صدقت يا أندريه في قولك: إني أصلح أن أكون رياضيا، وإن أفكاري وتصرفاتي تكاد تسير على طريقة هندسية أو حسابية أو جبرية. هذا صحيح، ولا أدري كيف اهتديت إلى ذلك! أنا مع الأسف كذلك. وهذا ما سوف يهدم كل عمل مسرحي أو فني أحاول إنشاءه، إن إسقاطي الحياة والعواطف كما هي، وكما يراها ويحسها دهماء الناس، وركوني إلى الطريقة الرياضية في تعريف أفكاري وتأملاتي لمصيبة كبرى، وإليك دليلا آخر في قطعة "اللحم" التي أرسلتها إليك. إنك ولا شك لم تجد فيها أية صورة تنطبق على الحياة وعواطف الحياة، ولكن قد وجدتها متمشية مع العقل والمنطق الذي تقتضيه فروض خاصة أنشأتها أنا في البداية، تلك هي الرياضة: فرض وعقل ومنطق. التصوير الحديث أخرج من حسابه العواطف البشرية وجعل أساسه الهندسة والمنطق العقلي الواعي وغير الواعي، والموسيقى الحديثة أيضا.. يا للبلاء! إني أحب الفن الحديث وأقلده أحيانا وأخشاه وأخشى منه على نفسي.."٢.

ودع عنك شك الكاتب في قيمة ما عمل، فهذا الشك لا تعرفه غير النفوس الكبيرة، ودع عنك جهره بهذا الشك، فذلك ما لا يستطيعه إلى الناجحون، ثم انظر معي إلى نمو الروح الهندسية esprit ed geometrie ما يسميها بسكال، عند كتابنا، وطغيانها على ما يسميه نفس الكاتب الفرنسي "روح الدقة" esprit de finesse، ثم ابحث عن أسباب ذلك، أوما ترى أن سيطرة الشهوة العقلية -شهوة المعرفة غير المباشرة- وما استتبع ذلك من انصرافه عن الحياة، وضيقه بها، كما تشهد الصفحات التي يبرم فيها الكاتب من احتكاكه بالمجرمين في حياته القضائية -كانت من أهم الأسباب الموجهة؟ الحكيم سجين نفسه، سجين عقله.

ولقد حاول كاتبنا الذكي أن يرى في بنائه لموضوعه وتصريفه للحوار أسلوبه الخاص، ولكننا نلاحظ ما سبق أن وضحناه، وهو أن بناءه لقصصه ومسرحياته رائدة دائما الفكر، والحياة لسوء الحظ أشد نفورا من أن تنطوي تحت خط من خطوط العقل. والشخصية الروائية -مهما آمنا بالجبر الداخلي لا بد ممزقة- في الحياة كل منهج مرسوم. أولا ترى إلى كاتب كدستيوفسكي كيف تتدفق بعض


١ ص٣٠.
٢ ص٥٥، ٥٦.

<<  <   >  >>