للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رواياته -"العبيط" مثلا- كما يتدفق سيل الحياة لا يحده شاطئ ولا يسجنه مهد. والحكيم كرجل تفكير لم يعد يرى للصورة جمالا يعتد به، فاللغة عنده "أداة يسيرة لنقل الأفكار النبيلة"١.

والأسلوب عنده هو روح الكاتب وشخصيته ومنهجه في التأليف، وهذا حق ولكنه ليس كل الحق، فهناك أيضا فن العبارة، وما ينبغي أن تدفعنا ثورتنا المشروعة على أدب اللفظ الذي أفسد حياتنا الروحية قرونا طويلة إلى تحطيم ذلك الفن، فالسجع والتكلف الأجوف -كما عهدناهما- لا يقدحان في المبدأ العام الذي تنهض على أساسه جميع الفنون وأعني به فن الأداء، ونحن لا نقول كما قال مذهب من المذاهب الحديثة: إن اللغة كمقاطع الرخام يصاغ منها الأدب، كما تنحت التماثيل، ولكننا نؤمن - ويجب أن نؤمن- أن الكثير من الأفكار الرائعة والأحاسيس العميقة تفقد من جمالها إن لم تفقده كله، إذا عريت عن جمال الصور، بل إن التفكير والإحساس كثيرا ما يضيعان إذا عجزنا عن إسكانهما اللفظ الدال، وكم من كتاب يحدثنا عن موضع الصعوبة في الخلق الفني الإنساني، فنجده في الاحتيال على الفكر أو الإحساس حتى يطمئن إلى اللفظ، وليس من شك في أن سر الخلود في الكثير من عيون الأدب يرجع جانب كبير منه إلى خصائص الصياغة، ولا أدل على ما نقول من استحالة ترجمة الشعر الخالص٢.

وهكذا نستطيع أن نجمل التحفظات التي نراها:

١- عدم الإمعان في الحياة طلبا للمعرفة المباشرة.

٢- شدة وطأة التفكير الرياضي وعدم تنمية روح الدقة التي ترى التفاصيل والمفارقات وتحرص عليها لدلالتها الإنسانية لا لتأييدها لفكرة عامة أو اتجاه مسيطر.

٣- عدم الإيمان بجمال الصياغة والشكل Le culte de la forme مع أنه إيمان بالجمال المطلق، ولنذكر قول أفلاطون: "لو صيغت الحقيقة امرأة لأحبها جميع الناس".

هذه هي مواضع نقدي للكتاب وصاحب الكتاب. حرصت على البدء بها لأني أقدر مبلغ الأثر الذي سيحدثه هذا الكتاب في النفوس، كما أقدر قوة كاتبه، وقد خشيت أن يحتاج المؤلف القراء فيما هو محق فيه وغير محق، ولا شك في أن القارئ عندما يقرأ الكتاب -وهذا ما أرجوه أن يفعله- سيحس بإيمان كاتبه إيمانا


١ ص٢١٦.
٢ أريد أن ألفت النظر إلى أنني أناقش هنا رأي الكتاب في قيمة فن العبارة، وليس معنى هذا أنه ليس للحكيم أسلوب تعبيري، فهذه مسألة أخرى.

<<  <   >  >>