للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا يدفع، إيمانا مخلصا من نفس مخلصة، ثم كم فيه من ضياء! كم فيه من فهم عميق سليم لمعنى الثقافة الإنسانية!

هذا الكتاب سيمثل -كما قلت- مرحلة من مراحل حياتنا الروحية والثقافية، وذلك ما سأبينه. وأما ما سبق فلست أتجه به لغير ملكة النقد عند القارئ، وهناك ملكة أخرى هي التي أدعو القارئ إلى أن يتناول بها هذا الكتاب، تلك هي ملكة الفهم بل ملكة المشاركة في الحس والإيمان.

٢- "قد تسألني أليس في مصر طبقة من المستنرين؟ نعم في مصر بيئة مستنيرة. فيها كثيرون عاشوا في أوربا وعرفوا الثقافة الأوربية، وفيهم من يعرف الفن الأوربي ويتكلم عن المصورين والتصوير، ومن يتكلم من برامس وباخ وهاندل، ولكن من النادر أن تجد بين هؤلاء من عرف أن الثقافة العقلية الحقيقة شيء والكلام فيها شيء آخر، وقليل من هؤلاء من أدرك أن الثقافة العقلية وحدها ليست كل شيء. الثقافة الكاملة شيء أوسع من ذلك بكثير. إن هؤلاء المتكلمين في الموسيقى والتصوير والفنون يعرفونها برءوسهم ولا يدركونها بحواسهم. إن المطلوب للثقافة ليس مجرد المعرفة، بل الإحساس والتذوق والتغذي بمختلف الفنون. ما قيمة الكلام عن بيتهوفن إذا كانت أعماله لا تهز نفسك هزا؟! وما معنى الحديث عن رفاييل، أو فلمنج أو روباننس أو بوتشيللي إذا كانت صورهم لا تعمر رءوسنا ليل نهار، وتحدث ألوانهم وأصباغهم في نفوسنا الأحداث؟! الثقافة ليست كلاما نملأ به الرءوس، ولكنها يقظة الملكات كلها والحواس إذا سلمت بقولي هذا فلا أبالغ إذا قلت لك: إنه ليس في مصر عدد أصباع اليدين من المثقفين ... " "ص١٢٣".

هذه الحقائق الكبيرة هي الدرس النهائي الذي تتمخض عنه "زهرة العمر". ولكي ندرك معناه البعيد يجب أن نحدد المرحلة التي وصلنا إليها اليوم، وأن نتبين العناصر المكونة لثقافتنا الحالية، والأمر واضح، فهناك منبعان كبيران لتفكيرنا الحالي، بل لحياتنا الروحية كلها.

وأما المنبع الأول فهو بعثنا لثقافة العرب في عصورها الأولى، فمصر المعاصرة ليست استمرارا لمصر الإسلامية، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فأجيالنا الناشئة أكثر معرفة وتغذية -اليوم- بامرئ القيس وجرير والبحتري مثلا منها بالبوصيري والبهاء زهير بن نباتة المصري. ونحن أكثر قراءة

<<  <   >  >>