للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دام

... لنبكي حظ موتانا

نفس مرسل وموسيقى متصلة، فالمقطوعة وَحْدَة تمهد لخاتمتها، وفي هذا ما يشبع النفس، ألا ترى كيف يعدك للصورة التي يدعوك إلى مشاركته فيها! إذا ضج الغربي بأعماله وقدس موتاه وعظم أبطاله فلا تهزج للمنتصر، ولا تشمت بالمنهزم؛ لأنه لا فضل لك في هذا ولا ذاك، وما أنت بشيء، وأنت أحق بأن تحزن، وأجدر بأن يخشع قلبك فتركع صامتا لتبكي موتاك، أية ألفة في الجو، وأية قوة في إعداده؟

"أخي" فأنا إذن شريكه في الإنسانية، وأنا قريب منه وهو قريب مني، ومتى قربت استطاع أن يهمس لأنني سأسمعه، وسيشجيني صوته الرقيق القوي المباشر، وهو ينقل إلى قوة إحساسه بفضل قدرته على اختيار اللفظ الذي يستنفد الإحساس "إن ضج غربي بأعماله" والضجيج لفظ بالغ القوة لجرس حروفه وقوة إيحائه، وهو يضج "بأعماله" لا "بالمبالغات الكاذبة". الغربي "يقدس ذكر من ماتوا" وهذه ألفاظ لينة جميلة مؤثرة غنية فيها قدسية الدين، فيها نبل الوفاء، فيها جلال الموت. مشاعر شتى تجتمع إلى النفس ثروة رائعة, وهو "يعظم بطش أبطاله".

أي قوة في تتابع هذه الحروف المطبقة ظاء ثم طاء وطاء. أعد هذه الجملة على سمعك ثم أنصت إلى قوتها التي تملأ فمك، كما تملأ الأذن، ثم إن التعظيم غير التحية أو التبجيل، والبطش غير الشجاعة أو الإقدام. البطش شيء يصعق وهو يدعوني إلى "ألا أهزج لمن سادوا". والهزج غير الفرح الهزج غناء، والسيادة لفظ حبيب إلى النفس مثال تهفو إليه؛ ولهذا فهو يحركها وله فيها أصداء مدوية "ولا تشمت بمن دانا" والشماتة شعور خسيس تركز في هذا اللفظ لكثرة مروره بنفوسنا جميعا، لفظ يحمل شحنة من الإحساس، وما أحقرها شماتة تلك التي نستشعرها لمن دان! نعم ما أحقر أن نشمت من جثة هامدة! بل ما لي أضعف من قوة الشاعر. وفي قوله: "من دانا" ما يثيرني فوق ما تثيرني الجثث والأشلاء؟ لأن "من دانا" قد ذل، والذل أشق على النفس من الموت، والموت كرامة إذا لم يكن بد من الهوان.

ليس لي إذن أن أهزج لمن ساد، أو أن أشمت بمن دان، وإنما علي أن أركع مثل الشاعر، صامتا بقلب خاشع دام لنبكي حظ موتانا. وهذه نغمات دينية. ونحن بشر تستطيع أقلامنا أو ألسنتنا أو عقولنا أن تهذي كما تشاء، وأما قلوبنا فمؤمنة، واللهفة إلى الله لا تكاد تفارقنا حتى تعود إليها، وبخاصة إذا قست

<<  <   >  >>