للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

علينا الحياة أو قسونا نحن على أنفسنا، وها نحن اليوم يقودنا الألم إلى كنف الله، الغربي يقدس ذكر موتاه ويعظم بطش أبطاله، فما لي أنا أهزج لمن ساد وأشمت بمن دان وما أنا بشيء؟ وإنه لعزيز على كل نفس ألا تكون شيئا، وما أخلقني عندئذ أن ألتمس رحمة ربي أنا وأخي الذي يجمعني به الألم الإنساني المشترك، ذلك الذي لا يعرف وطنا ولا قومية. ونحن سنركع صامتين، خاشعة قلوبنا الدامية، أنصت إلى كل هذه الكلمات! أنصت إليها واستشعر جلالها! استشعره بقلبك ثم تصور الصورة وما فيها من جمال التصوف ورهبة الدين ونبل الخشوع الصامت الدامي. سنركع صامتين لأن الله سيعمر قلوبنا، وقد خلت إلا منه، صامتين لأن خشوع الموت سيلمؤنا رهبة وهو بعد موت قد حرم حتى العزاء، موت يدمي القلوب ويعقد اللسان؛ لأن إخواننا لم يصيبوا مجدا ولا رفعوا للوطن ذكرا، الموت محنة فكيف به إذا لم يخلف عزاء؟! كيف به إذا لم يرفع من قلب أو يخلد أثرا؟! تعالَ إذن بنكِ حظ موتانا، حظهم المؤلم التعس المحزن.

هذا هو الشعر الذي لا أعرف كيف أصفه؟ فيه غنى صادر عما تحمل الألفاظ من إحساسات دقيقة صادقة قريبة من نفوسنا، أليفة إليها، إحساسات ركزناها منذ أجيال، عزة الغربي المجاهد الشجاع اليقظ، ثم ألمنا وقد أصبحنا لا نجد أمامنا سوى الركوع خاشعين والبكاء في صمت على إخواننا المهدرين، وتتزاوج المشاعر المختلفة فتزداد قوة، أولا ترى كيف أن ضجيج الغربي بأعماله وتقديسه لذكر موتاه وتعظيمه لبطش أبطاله قد زاد من حزننا مرارة؟ وأخيرا فيه الموسيقى: الشعر من "الوافر" ولكنه متصل باتصال الإحساس حتى لا أكاد أرى فيه ذلك الإيقاع rythme الذي يفسد الكثير من موسيقى شعرنا عندما تستقل الأبيات: موسيقاه مما يسميه الأوربيون ترنيما melodie وفي هذا ما يماشي الحزن المتصل والألم الخشوع:

أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه

وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلانه

فلا تطلب إذا ما عدت للأوطان خلانا

لأن الجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهم

... سوى أشباح موتانا

وها نحن من جديد أنا وأخي، نشهد الجندي يعود إلى أوطانه، ومن اغترب يعرف معنى هذه العودة، فما بالك إذا كانت عودة ستنقذك من مخالب الموت؟

<<  <   >  >>