للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر به؛ لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرًا من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضيحة؛ ليكون ما حظر من محارمه -جل شأنه- ممنوعًا، وما أمر به من فروضه متبوعًا، فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم، وتتحقق الرحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أي: في استنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة، وكفهم عن المعاصي، وبعثهم على الطاعة، وتحقيق مصالحهم الحقيقية في الدارين.

والجريمة بهذا المعنى إنما تكون إذا شرع الله تعالى للمحظور عقوبة، وما لم يشرع له عقوبة لا يكون جريمة.

إلا أن دائرة المحظورات التي شرعت لها عقوبة في الفقه الإسلامي أوسع بكثير من دائرة الجرائم في الفقه الوضعي.

وذلك لأن التشريع الإسلامي جاء بأمور ثلاثة: إصلاح العقائد، وإصلاح الأخلاق، وإصلاح علاقات الإنسان بربه -جل شأنه- وبالمجتمع الذي يعيش فيه أفرادًا جماعات، أحياء أو أمواتًا، وبالكائنات الأخرى، وفي كل مجال من هذه المجالات أحكام إما أوامر توجب عملًا من الأعمال أو نواهي توجب تركًا من التروك أو تحظر فعلًا من الأفعال، وهي في كل ذلك تشرع للناس ما يحقق مصالحهم بجلب النفع لهم، ودرء الضر عنهم، حتى يعيش المجتمع آمنًا مطمئنًا مستقرًّا لا يعكر صفوه شاذ أو ناد، أو متهور أو أناني.

أما القوانين فإنها وإن كان أساس التجريم فيها خلقي، وهو قصد تحقيق مصالح الناس، إلا أنها تقتصر على استيعاب دائرة الفقه الإسلامي تصورًا شنيعًا؛ لأنها لا تقوم على أساس الدين، الذي يرقق النفس البشرية ويترقَى

<<  <   >  >>