وهذا الفهم الدقيق أشار إليه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-؛ فعن أبي العالية، عن ابن مسعود، في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(المائدة:١٠٥)، قال:"كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً، فكان بين رجليْن بعض ما يكون بين الناس -أي: من التخاصم والشِّجار-، حتى قام كلّ واحد منهما إلى صاحبه. فقال رجل من جلساء عبد الله بن مسعود: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟
فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... } الآية.
قال، فسمعها ابن مسعود قال: "مهْ! لم يجئ تأويل هذه بَعْد. إن القرآن حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهنّ قبل أن ينزلن، ومنه آيٌ قد وقع تأويلهنّ بعد اليوم، ومنه آي تأويلهنّ عند الساعة ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شِيعاً، ولم يُذق بعضكم بأس بعض، فأْمُروا وانهَوْا. وإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبِستم شِيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤٌ ونفسه. وعند ذلك جاءنا تأويل الآية"، رواه ابن جرير، وذكره ابن كثير في "تفسيره".
فقد ذكر -رحمه الله- المناخ الملائم الذي يثمر فيه الأمر بالطاعة والنّهي عن المعصية، ويؤتي ثماره. وهذه ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(آل عمران:١١٠).
كما يُبيّن -رضي الله عنه- الأحوال التي تعمّ فيها الفتن، وتكثر الفوضى، ويصير الأمر والنهي بدون إدراك للعواقب ودون رويّة وتدبّر وحكمة، يَجُرُّ من المفاسد أكثر ممّا يحقِّق من المصالح.