أرسطو وشيعته من إثبات مادة في الخارج مغايرة للجسم المحسوس وصفاته وإثبات ماهيات كلية للأعيان مقارنة لأشخاصها في الخارج هو أيضا من باب الخيال حيث اشتبه عليه ما في الذهن بما في الخارج وفرق بين الوجود والماهية في الخارج.
وأصل ذلك أن الماهية في غالب اصطلاحهم اسم لما يتصور في الأذهان والوجود اسم لما يوجد في الأعيان، والفرق بين ما في الذهن وبين ما في الخارج لا ينازع فيه عاقل فهمه، لكنهم بعدها ظنوا أن في الخارج ماهية للشيء الموجود مغايرة للشخص الموجود في الخارج.
وهذا غلط ما في النفس سواء سمي وجودا ذهنيا أو ماهية ذهنية أو غير ذلك هو مغاير لما في الخارج سواء سمي ذلك وجودا أو ماهية أو غير ذلك.
وأما أن يقال أن في الخارج في الجوهر المعين الموجود كالإنسان مثلا جوهرين أحدهما ماهيته والآخر وجوده فهذا باطل كبطلان قولهم أن فيه جوهرين أحدهما مادته والآخر صورته، وكقولهم أنه مركب من الحيوانية والناطقية فإن الحيوانية والناطقية إن أرادوا إنها جوهران وهما الحيوان والناطق فالشخص المعين هو الحيوان وهو الناطق، وليس هنا شخصان أحدهما حيوان والآخر ناطق، وإن أرادوا نفس الحياة والنطق فهذان صفتان قائمتان بالإنسان وصفة الموصوف قائمة به قيام العرض بالجوهر، والجوهر لا يتركب من أعراضه القائمة به، ولا يكون وجود أعراضه سابقا لذاته والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع «١».
والمقصود هنا أن أرسطو وأتباعه وأمثاله من أهل الفلسفة أنكروا على من جوز منهم وجود مادة بلا صورة، فهم مع أصناف أهل الكلام وسائر العقلاء متفقون على امتناع خلو الجسم عن جميع الصفات والأعراض، وإن جوز ذلك الصالحي ابتداء فلم يجوزه دواما، والجمهور منعوه ابتداء ودواما، وإنما تنازع الناس في استلزامه لجميع أجناس الأعراض فقيل: إنه لا بد أن يقوم به من الأعراض المتضادة واحد منها، وما لا ضد له لا بد أن يقوم به واحد من جنسه، وهذا قول الأشعري ومن اتبعه، وقيل: لا بد أن يقوم به الأكوان وهي الحركة أو السكون والاجتماع والافتراق، ويجوز خلوه عن غيرها وهو قول البصريين من المعتزلة، وقيل: يجوز خلوه عن الأكوان دون الألوان كما يذكر الكعبي وأتباعه من البغداديين منهم وهؤلاء قد يتنازعون في قبول الشيء من الأجسام بكثير من الأعراض، ويتفقون على امتناع خلو الجسم عن العرض وضده بعد قبوله له،
(١) وقد بسط المصنف رحمه الله الكلام في ذلك في كتابه القيم: درء تعارض العقل والنقل.