للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولهذا كان من سنة القضاة إذا شهد عندهم من لا يعرفونه كان لهم أصحاب مسائل يسألون عنه جيرانه ومعامليه ونحوهم ممن له به خبرة فمن خبر شخصا خبرة باطنة فإنه يعلم من عادته علما يقينيّا أنه لا يكذب لا سيما في الأمور العظام، ومن خبر عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وسفيان الثوري ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وأضعاف أضعافهم حصل عنده علم ضروري من أعظم العلوم الضرورية أن الواحد من هؤلاء لا يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تواترت عنه أخبارهم من أهل زماننا وغيرهم حصل له هذا العلم الضروري ولكن قد يجوز على أحدهم الغلط الذي يليق به، ثم خبر الفاسق والكافر بل ومن عرف الكذب قد تقترن به قرائن تفيد علما ضروريّا أن المخبر صادق في ذلك الخبر فكيف ممن عرف منه الصدق في الأشياء فمن كان خبيرا بحال النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل زوجته خديجة وصديقه أبي بكر إذا أخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بما رآه أو سمعه حصل له علم ضروري بأنه صادق في ذلك ليس هو كاذبا في ذلك ثم أن النبيّ لا بد أن يحصل له علم ضروري بأن ما أتاه صادق أو كاذب فيصير إخباره عمّا علمه بالضرورة كأخبار أهل التواتر عما علموه بالضرورة.

وأيضا فالمتنبئ الكذاب كمسيلمة والعنسي ونحوهما يظهر لمخاطبه من كذبه في أثناء الأمور أعظم ما يظهر من كذب غيره فإنه إذا كان الإخبار عن الأمور المشاهدة لا بد أن يظهر فيه كذب الكاذب فما الظن بمن يخبر عن الأمور الغائبة التي تطلب منه، ومن لوازم النبيّ التي لا بد منها الإخبار عن الغيب الذي أنبأ الله تعالى به فإن لم يخبر عن غيب لا يكون نبيّا فإذا أخبرهم المتنبئ عن الأمور الغائبة عن حواسهم من الحاضرات والمستقبلات والماضيات فلا بد أن يكذب فيها ويظهر لهم كذبه، وإن كان قد يصدق أحيانا في شيء كما يظهر كذب الكهان والمنجمين ونحوهم وكذب المدعين للدين والولاية والمشيخة بالباطل فإن الواحد من هؤلاء وإن صدق في بعض الوقائع فلا بد أن يكذب في غيرها بل يكون كذبه أغلب من صدقه بل تتناقض أخباره وأوامره، وهذا أمر جرت به سنة الله التي لن تجد لها تبديلا قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «١».

وأما النبيّ الصادق المصدوق فهو فيما يخبر به عن الغيوب توجد أخباره صادقة مطابقة وكلما زادت أخباره ظهر صدقه، وكلما قويت مباشرته وامتحانه ظهر صدقه كالذهب الخالص الذي كلما سبك خلص وظهر جوهره بخلاف المغشوش


(١) سورة النساء، الآية: ٨٢.

<<  <   >  >>